أصلاً ولا اعتبار لها في نظر أهل البصيرة ، بل إنما الإنسان بهذه اللذّات يكون شريكاً للحيوان ، وتكون نفسة الناطقة عند استيفائه خادمة لقوة البهيمة ؛ ولذا لل نسبنا إلى أحد كثرة الأكل ووصفناهبذلك لتأثر من ذلك إلى الغاية ، مع أن كلّ عاقل يطلب نشر كماله ويبتشُّ بِذِكره بما فيه من وصف الكمال ، وكيف نعد نيل اللَّذّات الجسمانية كمالاً مع أنَّ كلّنا نقدِّس ذات الباري تعالى الجامع لجميع صفات الكمال من لوث هذه اللذّة ، فلو كانت من الكمال في شيء لثبتت في حقّ مبدأ الكائنات ، هذا كله مع أنه نفع منقطع غير دائم في دار الدنيا ؛ إذ غاية صفة الدنيا للراغبين فيها والراضين بها لا يتجاوز المثل ، وهو أن تزهر في عيونهم وتروقهم محاسنهم ، ثُمَّ عن قليل تزولُ عنهم ، فكأنَّها لم تكن كما هو معنى المثل المضروب لها في القرآن الكريم : وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (١).
وقال مولانا أمير المؤمنين وسيد الوصيين في وصف الدنيا : «لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة ، ولم يلق من سرّائها بطناً إلّا منحته من ضرائها ظهراً ، ولم تطله فيها ديمة رخاء ، إلا همت (٢) عليه مزنة بلاء ، وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تسمي له متنكرة ، وإن جانبٌ منها اعذوذبَ واحلولى أمرّ منها جانب فأوبى ، لا ينال امرؤ من غضارتها رغباً إلا أرهقته من نوائبها
__________________
(١) سورة الكهف : من الآيتين ٤٥ ـ ٤٦.
(٢) كذا وفي بعض النسخ : (هننت) وفي غيرها (هتفت).