هذا القول لزم جواز أن يقال ( فلان مولى منك ) في موضع ( أولى منك ) وهو باطل منكر بالإجماع. وأيضا : فإنّ تفسير أبي عبيدة بيان لحاصل معنى الآية : يعني : النار مقرّكم ومصيركم والموضع اللاّئق بكم ، لا أن لفظة ( المولى ) فيها بمعنى ( الاولى ).
ثانيا : ولو سلّم ـ كون ( المولى ) بمعنى ( الأولى ) فما الدليل من اللغة على أن تكون الصلة ( بالتصرف )؟ إذ يحتمل أن يكون المراد : الأولى بالمحبة والأولى بالتعظيم ، وأيّ ضرورة لأن يحمل لفظ ( الأولى ) على ( الأولوية بالتصرف ) في كل مورد؟ قال الله تعالى ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ) ، وواضح أن أتباع ابراهيم لم يكونوا أولى بالتصرف منه.
ثالثا : إن القرينة المتأخرة تدل بصراحة على أن المراد من الولاية المستفادة من لفظ ( المولى ) أو ( الأولى ) ـ أيّاما كان ـ هو المحبة ، وتلك القرينة قوله : « اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ». ولو كان ( المولى ) بمعنى ( المتصرف في الأمر ) أو كان المراد بالأولى هو ( الأولى بالتصرف ) لكان المناسب أن يقول : اللهمّ أحبّ من كان تحت تصرّفه ، وأبغض من لم يكن تحت تصرفه. فذكر محبته ومعاداته دليل صريح على أنّ المقصود إيجاب محبته ، والتحذير من معاداته ، لا التصرف وعدم التصرف.
ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد بلّغ أدنى الواجبات بل السنن بل آداب القيام والقعود والأكل والشرب ، بوجه يفهم الكلّ ـ سواء الحاضر والغائب ، ممّن عرف لغة العرب ـ المعاني المقصودة من ألفاظه بلا تكلّف ، وفي ذلك ـ في الحقيقة ـ كمال البلاغة ، وهو مقتضى منصب الإرشاد والهداية ، فدعوى الاكتفاء حينئذ بمثل هذا الكلام الذي لا تساعده قواعد لغة العرب ، يستلزم إثبات قصور البيان والبلاغة ، بل المساهلة في أمر التبليغ والهداية في حق النبي ، والعياذ بالله من ذلك.
فقد ظهر أن غرضه صلّى الله عليه وسلّم ـ إفادة هذا المعنى ،