منصرف من مكّة يريد المدينة ، فقال له : أين تريد؟. قال الحسين : أمّا الآن فمكة ، قال : خار اللّه لك ، غير أنّي أحبّ أن أشير عليك برأي. قال الحسين عليهالسلام : وما هو؟. قال : إذا أتيت مكة فأردت الخروج منها إلى بلد من البلدان ، فإيّاك والكوفة ، فإنّها بلدة مشؤومة ، بها قتل أبوك ، وبها خذل أخوك ، واغتيل بطعنة كادت أن تأتي على نفسه ، بل الزم الحرم ، فإنّ أهل الحجاز لا يعدلون بك أحدا ، ثمّ ادع إليك شيعتك من كلّ أرض ، فسيأتونك جميعا. قال له الحسين : يقضي اللّه ما أحب » (١). وبذلك يظهر أنّه عليهالسلام استسلم ـ بالكامل ـ للمشيئة الإلهيّة.
وهذا الموقف لا يفسر بمعزل عن الظروف الواقعية الصعبة المحيطه به ، التي تعصف مثل ريح السّموم ، وموقفه هذا ليس قفزا على الواقع والوقائع بل ينسجم معها تمام الإنسجام ، فبنو أمية لايتركوه حيا حتى يوقع لهم على صك العبودية والاستسلام ، من هنا أدرك أنه لابد من تقديم نفسه كبش فداء خدمة للدّين والقيم ، لذلك اتخذ موقفا نهائيا بالمواجهة مع علمه المسبق بالنتيجة ، ومن الشواهد على ذلك أنه قبل أن يخرج قام خطيبا في الناس ـ بعد أن صلّى بين الرّكن والمقام ركعتين ـ فقال : « الحمدُ للّه ، وما شاءَ اللّه ، ولا قوّةَ إلاّ باللّه ، وصلّى اللّه على رسوله. خُطّ الموتُ على وُلد آدم مخطَّ القلادة على جيد الفتاة ، وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف ، وخير لي مصرعٌ أنا لاقيه. كأني بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأنّ مني أكراشا جوفا ، وأجربة سغبا
__________________
(١) المصدر السابق : ١٧٤.