فأما قوله تعالى : فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ، فإن التجلى هاهنا هو التعريف والإعلام والإظهار لما يقتضي المعرفة ، كقولهم هذا كلام جلي أي واضح ظاهر ، وكقول الشاعر :
تجلى لنا بالمشرفية والقنا |
|
وقد كان عن وقع الأسنة نائيا |
أراد أن تدبيره دل عليه حتى علم أنه المدبر له وإن كان نائياً فأقام ما أظهره من دلالة فعله على مقام مشاهدته وعبر عنه بأنه تجلى منه .
وفي قوله تعالى ( لِلْجَبَلِ ) وجهان ، أحدهما ، أن يكون المراد لأهل الجبل ومن كان عند الجبل فحذف كما قال تعالى : وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ، وما بكت عليهم السماء والأرض ، وقد علمنا أنه بما أظهره من الآيات إنما دل من كان عند الجبل على أن رؤيته تعالى غير جائزة . والوجه الآخر ، أن يكون المعنى للجبل أي بالجبل ، فأقام اللام مقام الباء كما قال تعالى : آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ، أي به ، وكما تقول : أخذتك لجرمك أي بجرمك ، ولما كانت الآية الدالة على منع ما سأل إنما حلت الجبل وظهرت فيه جاز أن يضاف التجلي إليه .
وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء الموحدين على أنه تعالى لا يرى بالأبصار من حيث نفي الرؤية نفياً عاماً بقوله تعالى : لَن تَرَانِي ، ثم أكد ذلك بأن علق الرؤية باستقرار الجبل الذي علمنا أنه لم يستقر ، وهذه طريقة للعرب معروفة في تبعيد الشئ لأنهم يعلقونه بما يعلم أنه لا يكون كقولهم : لا كلمتك ما أضاء الفجر وطلعت الشمس ، وكقول الشاعر :
إذا شاب الغراب رجوت أهلي |
|
وصار القير كاللبن الحليب |
ـ بحار الأنوار ج ٣ ص ٤٥ : أورد رواية الصدوق الأولى عن الأمالي والتوحيد وقال :
بيان : إعلم أن المنكرين للرؤية والمثبتين لها كليهما استدلوا بما ورد في تلك القصة على مطلوبهم ، فأما المثبتون فاحتجوا بها بوجهين :
الأول :
أن موسى عليهالسلام سأل الرؤية ولو امتنع كونه تعالى
مرئياً لما سأل ، لأنه حينئذ