وجود هذه المناسبة بين الألفاظ والمعاني ، بل الدليل قائم على عدمها في الجميع.
وأمّا الثالث : فيرد عليه أنّا لو سلّمنا وجود المناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى فلا نسلّم أنّ الواضع جعل لكل معنى لفظاً مخصوصاً على طبق تلك المناسبة ، وذلك لأنّ الغرض من الوضع يحصل بدون ذلك ، ومعه فأيّ شيء يستدعي رعاية تلك المناسبة في الوضع. اللهمّ إلاّ أن يتمسّك بذيل قاعدة استحالة الترجيح من دون مرجح ، ولكن قد عرفت بطلانها.
وأمّا الرابع : وهو أنّ الوضع وسط بين الامور التكوينية والجعلية ، فهو ممّا لا يرجع إلى معنى محصّل ، وذلك لعدم واسطة بينهما ، ضرورة أنّ الشيء إذا كان من الموجودات الحقيقية التي لا تتوقف في وجودها على اعتبار أيّ معتبر ، فهو من الموجودات التكوينية ، وإلاّ فمن الامور الاعتبارية الجعلية ، ولا نعقل ما يكون وسطاً بين الأمرين. وأمّا حديث الإلهام فهو حديث صحيح ولا اختصاص له بالوضع.
وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (١) أنّ الله ( تبارك وتعالى ) كما منّ على عباده بهدايتهم تشريعاً ، وسوقهم إلى الحياة الأبدية بارسال الرسل وإنزال الكتب ، كذلك منّ عليهم بهدايتهم تكويناً بالهامهم إلى سيرهم نحو كمالهم ، بل إنّ هذه الهداية موجودة في جميع الموجودات ، فهي تسير نحو كمالها بطبعها أو باختيارها ، والله هو الذي أودع فيها قوّة الاستكمال فترى الفارة تفرّ من الهرة ولا تفرّ من الشاة.
وعلى الجملة : أنّ مسألة الإلهام أجنبية عن تحقق معنى الوضع بالكلّية ، فانّ الإلهام من الامور التكوينية الواقعية ، ولا اختصاص له بباب الوضع ، والمبحوث
__________________
(١) البيان في تفسير القرآن : ٤٩٦.