وأن الظواهر وما وقع منه في اليوم التالي لا تقف إلى جانبه ، ومن ثم فقد تحقق موسى عليهالسلام أنه مطلوب بدم القتيل ، وأدرك ألا مظنة من القصاص ، فلقد عرف الملأ من قوم فرعون أنها فعلة موسى ، وما من شك أنهم أحسوا فيها بسبح الخطر ، فهي فعلة طابعها التمرد والثورة ، والانتصار لبني إسرائيل ، ومن ثم فهي ظاهرة خطيرة تستحق التأمل ، ولو كانت جريمة قتل عادية ما استحقت أن يشتغل بها فرعون والملأ والكبراء ، فانتدبت يد القدر واحدا من الملأ ، الأرجح أنه الرجل المؤمن من آل فرعون الذي يكتم إيمانه ، والذي جاء ذكره في سورة غافر ، انتدبته ليسعى إلى موسى من أقصى المدينة ليبلغه بتآمر القوم ضده قبل أن يبلغوه ، قال تعالى : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى ، قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) ، وقد سمى الله هنا التشاور ائتمارا ، لأن كلا من المتشاورين يأمر ويأتمر (١) ، وقد جاءت القصة كاملة في «حديث الفتون» الذي يروي قصة موسى عليهالسلام ، وقد رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس (٢).
وهكذا لم يكد موسى يسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه حتى عزم على التعجيل بالرحيل ، ولم يجد مع الخوف فرصة يتزود فيها لهذه الرحلة التي لم يكن يعرف مداها ولا منتهاها ، فلقد أوشك القوم أن يحدقوا به ، وأن يطبقوا عليه ، وأن يفتكوا به ، فلا مجال للتفكير فيما وراء ذلك من تعب يضنيه ،
__________________
(١) سورة القصص : آية ٢٠ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٥ ، أحمد عبد الحميد يوسف : المرجع السابق ص ٩٧ ـ ٩٩ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٥.
(٢) أنظر عن حديث الفتون المشهور (ابن كثير : مختصر التفسير ٢ / ٤٥٧ ـ ٤٨١ ، البداية والنهاية ١ / ٣٠٠ ـ ٣٠٧ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٢ ـ ٢٩٦ ، وأخرجه النسائي في سننه ، وابن جرير وابن حاتم في تفسيرهما ، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، كما يقول ابن كثير).