امشي خلفي ودليني على الطريق خوف أن يراها ، أو أنه قال لها هذا بعد أن مشى خلفها فرفع الهواء ثيابها عن كعبها (١) ، فهذا كله تكلف لا داعي له ، ودفع لريبة لا وجود لها ، وموسى عليهالسلام عفيف النظر ، نظيف الحس ، وهي كذلك ، والعفة والأمانة لا تحتاجان لكل هذا التكلف عند لقاء رجل وامرأة ، فالعفة تنضح في التصرف العادي البسيط بلا تكلف ولا اصطناع.
وعلى أي حال ، فلقد استجاب الشيخ لاقتراح ابنته ، ولعله أحسن من نفس الفتاة ، ونفس موسى ، ثقة متبادلة ، وميلا فطريا سليما صالحا لبناء أسرة ، والقوة والأمانة حين تجتمعان في رجل ، لا شك تهفو إليه طبيعة الفتاة السليمة التي لم تفسد ولم تلوث ولم تنحرف عن فطرة الله ، فجمع الرجل بين الغايتين ، وهو يعرض على موسى أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يخدمه ويرعى ماشيته ثماني سنين ، فإن زادها إلى عشر ، فهو تفضل منه لا يلزم به ، (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٢) ، قال الإمام القرطبي : في الآية عرض الولي ابنته على الرجل ، وهذه سنة قائمة ، عرض شعيب ابنته على موسى ، وعرض عمر ابنته حفصة على أبي بكر وعثمان ، وعرضت الموهوبة نفسها على النبي صلىاللهعليهوسلم ، فمن الحسن عرض الرجل وليته على الرجل الصالح ، اقتداء بالسلف الصالح (٣).
ولعل سائلا يتساءل : من هو شيخ مدين هذا الذي صاهر موسى عليهالسلام؟
__________________
(١) تفسير النسفي ٣ / ٢٣١ ، تفسير البيضاوي ٤ / ١٢٦ ، الدر المنثور ٥ / ١٢٦ ـ ١٢٧ ، تفسير الفخر الرازي ٤ / ٢٣٩ ـ ٢٤٤ ، مختصر تفسير ابن كثير ٣ / ١١ ، تاريخ الطبري ١ / ٣٩٨ ، ابن الأثير ١ / ٩٩.
(٢) سورة القصص : آية ٢٧ ، في ظلال القرآن ٥ / ٢٦٨٧ ـ ٢٦٨٨.
(٣) تفسير القرطبي ١٣ / ٢٧١.