وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ، وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (١).
ويقول المسيح ، عليهالسلام ، كما جاء في العهد الجديد «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ولا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل» (٢).
ولا ريب في أن هذا التصديق لا يعني أن الكتب المتأخرة ، إنما هي تجديد للمتقدمة وتذكير بها ، فلا نبدل فيها معنى ولا نغير حكما ، وإنما الواقع غير ذلك ، فقد جاء الإنجيل بتبديل بعض أحكام التوراة ، كما جاء القرآن بتبديل بعض أحكام الإنجيل ، ولكن يجب أن يفهم أن هذا وذاك لم يكن من المتأخر نقضا للمتقدم ، ولا إنكارا لحكمة أحكامه في إبانها ، وإنما كان وقوفا عند وقتها الناسب وأجلها المقدر (٣) ، ومن هنا كان قوله (ص) في الحديث الشريف : «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» ، وفي رواية الإمام مالك في الموطأ «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق». وهكذا فإن الله تعالى ، بمقتضى حكمته في رسالاته ، إنما كان يجعل كل نبي يبشر بمن يجيء بعده ، فالتوراة بشرت بالمسيح وبمحمد ، عليهما الصلاة وأتم التسليم ، والمسيح بشر بمحمد (ص) ، يقول تعالى : (وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ
__________________
(١) سورة المائدة : آية ٤٦ ـ ٤٨.
(٢) إنجيل متى ٥ / ١٧ ـ ١٨.
(٣) انظر : سورة آل عمران : آية ٥٠ ، الأعراف : آية ١٥٧ ، محمد عبد الله دراز : المرجع السابق ص ١٨٥ ـ ١٨٦.