المحن الأخرى التي تعرضوا لها ، لقد كان فرعون يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم ، وها هم الآن يقتلون أنفسهم بأنفسهم ، وهكذا نرى أن ما حل ببني إسرائيل في ظل فرعون ، كان من جنس ما حلّ بهم في ظل موسى ، فقد كان ذلك بلاء من الله ، وكان هذا بأمر من الله ، وكلاهما محنة تنزل بالعصاة (١) ، فلقد كانت توبتهم عن عبادة العجل أن يقتلوا أنفسهم بأنفسهم ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (٢) ، يقول المفسرون أنهم أمروا أن يقتل من لم يعبد العجل من عبده ، وكان الرجل منهم يرى قريبه فلا يقدر أن يمضي لأمر الله تعالى ، فأرسل الله تعالى ضبابة وسحابة سوداء لا يتباصرون بهما ، فأخذوا يقتتلون من الغداة إلى العشى ، حتى دعا موسى وهارون عليهماالسلام ، فكشفت السحابة ونزلت التوبة ، وكان القتلى سبعين ألفا ، وقال السدى في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) : اجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه (أي العجل) بالسيوف ، فكان من قتل من الفريقين شهيدا ، حتى كثر القتلى ، حتى كادوا أن يهلكوا ، وحتى قتل منهم سبعين ألفا ، وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ، ربنا البقية الباقية ، فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيدا ، ومن بقي مكفرا عنه ، فذلك قوله تعالى : (فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).
وروى ابن جرير بسنده عن ابن عباس : أمر موسى قومه ، عن أمر ربه عزوجل ، أن يقتلوا أنفسهم ، قال : وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلمة
__________________
(١) عبد الرحيم فودة : المرجع السابق ص ٢٠٤.
(٢) سورة البقرة : آية ٥٤.