الإحكام والقهر ، ولا يسام الذل والهوان ، والعلماء يقررون أن حضانة العلم خمس عشرة سنة ، فإذا ابتدأت أمة تتعلم فإنها تجني ثمرة العلم بعد خمس عشرة سنة ، وأما حضانة الأخلاق فمدتها أربعون سنة ، فإذا أخذت الأمة تستمسك بالأخلاق فإنها لا تجني الثمرة إلا بعد أربعين سنة ، لذلك أراد الله تعالى أن يبقي بنو إسرائيل في البرية أربعين سنة حتى يفنى الجيل الذي نشأ في الذل والاستعباد ، وينشأ جيل ألف الحرية ولم تذله العبودية (١).
على أن هناك فريقا من العلماء يرى أن فترة التيه هذه إنما تتصل اتصالا وثيقا بعقيدة إسرائيل الجديدة ، ذلك لأن فترة الأربعين سنة للتيه إنما كانت ملائمة لغرس العقيدة الجديدة في عقول وقلوب القوم الذين اعتادوا رونق الطقوس المصرية ، كما أن تلك العقيدة ، سوف تتعرض لأخطار أعظم فيما بعد في فلسطين (٢) ، مما يجعلها في أشد الحاجة إلى فترة كافية لتثبيت الإيمان بها.
وأيا ما كان الأمر ، فإن ختام القصة هنا في سورة المائدة بقوله تعالى : (فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) إنما هو تسلية لموسى عليهالسلام ، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك ، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ورسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت نفوسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان سيدنا موسى عليهالسلام ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم وهم ينظرون ، لتقر به أعينهم وما بالعهد
__________________
(١) عبد الوهاب النجار : المرجع السابق ص ٢٢٧ ـ ٢٢٨.
(٢) ٤٩٧.L.Woolley ,op ـ cit ,P.