ثم سألوه «فأوف لنا الكيل وتصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين» ، وكان الصديق عليهالسلام دقيق الحس ، رقيق القلب ، لطيف الوجدان ، وإلى هذا الحد لا يطيق أن يرى على إخوته الذل والتذلل ، والمهانة والاستكانة ، وطلب الصدقة والمعونة ، ومن ثم فقد أعلمهم بحقيقة أمره وعفا عنهم ، وقال لهم «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا ، وأتوني بأهلكم أجمعين» ، وأما كيف عرف الصديق أن رائحته سترد على أبيه بصره الكليل ، فذلك مما علمه الله ، والمفاجأة تصنع في كثير من الحالات فعل الخارقة ، وما لها لا تكون خارقة ، ويوسف نبيّ رسول ، ويعقوب نبيّ رسول (١).
ولعل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن صياغة التوراة لدعوة يوسف أباه وأهله أن يأتوا إليه في مصر ، إنما تعطي تأكيدا يكشف عن مطامع يهود في مصر ، تقول التوراة «خذوا أباكم وبيوتكم (خيامكم) وتعالوا إلي فأعطيكم خيرات أرض مصر وتأكلون دسم الأرض ... خذوا لكم من أرض مصر عجلات لأولادكم ونسائكم واحملوا أباكم وتعالوا ، ولا تحزن عيونكم على أثاثكم لأن خيرات جميع أرض مصر لكم (٢)» ، كما أن التوراة لم تهمل كذلك أن تؤكد أن رحلة هؤلاء المجهدين الجياع إلى مصر المضيافة ، دائما وأبدا ، إنما كانت للقوت ، ولكنها تؤكد كذلك أنها لتحقيق مؤامرة على الأرض الطيبة التي استضافتهم (٣).
وعلى أية حال ، فإن يعقوب عليهالسلام ، سرعان ما يصل إلى مصر ، بعد أن ارتد بصيرا ، ويصف القرآن الكريم لقاء يوسف بأبيه وإخوته في قول الله تعالى : (فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ
__________________
(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٦ ـ ٢٠٢٧ ، تفسير الفخر الرازي ١٨ / ٢٠١.
(٢) تكوين ٤٥ / ١٨ ـ ٢٠.
(٣) تكوين ٤٦ / ١ ـ ٤.