لم يكونوا وحدهم فقد كانت القوافل ترد مصر بكثرة كاثرة لتمتار الغلة من أرض الكنانة في السنين العجاف ، غير أن يعقوب ما كان يبحث عن أعذار ، ومن ثم فقد انصرف إلى ربه يدعوه ويضرع إليه ويقول : «بل سولت لكم أنفسكم أمرا ، فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ، إنه هو العليم الحكيم» ، وتولى عنهم يبكي ولدا بعد ولد ، والجرح الأول أعمق ، والجرح على الجرح أنكى وأشد ، «وقال يا أسفا على يوسف وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» ، ويبلغ الحقد بقلوب بنيه لا يرحموا ما به ، وأن يلسع قلوبهم حنينه ليوسف وحزنه عليه ذلك الحزن الكامد الكظيم ، فلا يسرون عنه ولا يعزونه ، ولا يعللونه بالرجاء ، بل يريدون أن يطمسوا في قلبه الشعاع الأخير ، «قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين» ، ويرد عليهم بأن يتركوه لربه ، فهو لا يشكو لأحد من خلقه ، وهو على صلة بربه غير صلتهم ، ويعلم من حقيقته ما لا يعلمون ، ثم يوجههم إلى تلمس يوسف وأخيه ، وألا ييأسوا من رحمة الله في العثور عليهما ، فإن رحمته واسعة وفرجه دائما منظور (١).
وجهز القوم جهازهم وحملوا متاعهم وبضاعتهم ، ودخلوا مصر ، للمرة الثالثة ، وقد هدّهم التعب وكدهم العيش ، وضاقت بهم السبل ، وكاد أن يقضي عليهم القحط القاتل ، فلقد أضرت بهم المجاعة ، ونفدت منهم النقود ، وجاءوا ببضاعة رديئة هي الباقية لديهم يشترون بها الزاد ، يدخلون وفي حديثهم انكسار لم يعهد في أحاديثهم من قبل ، وشكوى من المجاعة تدل على ما فعلت بهم الأيام ، ودخلوا على يوسف فقالوا : يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة من صوف ودراهم زيوف أو رديئة ، قال ابن عباس ، فيما يروي الرازي ، كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطعام ،
__________________
(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٥ ـ ٢٠٢٦.