ثم سرعان ما عاد أخوة يوسف إلى الموقف الحرج الذي وقعوا فيه ، وإلى الموثق الذي أخذه عليهم أبوهم ، فراحوا يسترحمون يوسف باسم والد الفتى ، الشيخ الكبير ، ويعرضون أن يأخذ بدله واحدا منهم ، إن لم يكن مطلقه لخاطر أبيه ، ويستعينون في رجائه بتذكيره بإحسانه وصلاحه وبره لعله يلين «قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين» ، ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا ، وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولأبيه ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس «قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون» ، ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق ، لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق ، فعبر أدق تعبير يحيكه السياق هنا باللغة العربية بدقة ، قال صاحب تفسير روح المعاني : والتعبير بقوله «من وجدنا متاعنا عنده» بدل «من سرق» لتحقيق الحق والاحتزار عن الكذب (١).
وهكذا وقع القوم في ضيق ، وانحدروا في مأزق ، وابتعدوا عن الناس ، وتناجوا في أمرهم ، «قال كبيرهم ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله ومن قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين ، ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا ما علمنا وما كنا للغيب حافظين» ، وإن كان في شك من أمركم فليسأل القرية (٢) التي كنا فيها ، أو ليسأل القافلة التي كنا فيها فهم
__________________
(١) في ظلال القرآن ٤ / ٢٠٢٢ ، تفسير روح المعاني ١٣ / ٣٤.
(٢) القرية هنا ليست اسما لعاصمة مصر ، حتى وإن رأى البعض أن اسم القرية إنما يعني المدينة الكبيرة لأن عاصمة مصر على أيام الهكسوس (أفاريس) وهو عصر يوسف ، لم تكن عاصمة لمصر كلها ، وإنما للجزء الذي كان يحكمه الهكسوس حتى مدينة القوصية (شمالي أسيوط بحوالي ١٥ كيلا) فحسب ، ولأن الله وصف مكة المكرمة عند ظهور الإسلام بأنها أم القرى (الأنعام ٩٢) ثم يصف عاصمة مصر كلها بأنها قرية ، ومن ثم فالرأي عندي أنها ربما كانت القرية أو المدينة التي اختيرت لتوزيع الغلال خارج العاصمة أو قريبا منها.