وهو ، أيضا ، منكر في المعنى ، كما مرّ في باب المعرفة (١) ؛ لداع (٢) لهم إلى ذلك ، وهو أنهم غلّبوا تأخير هذا المبتدأ عن الخبر ليحصل به التفسير بعد الإبهام ، إذ له في النفوس وقع ، فأوردوا الفاعل في صورة المعرفة وإن كان نكرة في الحقيقة ، ليكون الكلام المفيد للمدح أو الذم في الظاهر مصوغا على وجه لا ينكر ، لأن مدح شخص منكور من الأشخاص أو ذمّه ، لا فائدة فيه ، فبتوا أمر المدح والذم من أول الأمر ، على وجه يصح في الظاهر ، والجملة الفعلية ، كما ذكرنا في تقدير مفرد ، وهو الفاعل الموصوف بالفعل ، وذلك لأنه سلب من الفعل معنى الزمان والحدوث ، فصار معنى نعم : جيّد ، فكأنّه صفة مشبهة ، ومجوّز ذلك كون جميع الأفعال في المعنى ، صفات لفاعليها ، فصار نعم الرجل ، كجرد قطيفة (٣) ؛
ولا يقال : ان ما ذكرت ، قريب من دعوى علم الغيب (٤) ، فإن (٥) الأصول تدعو إليه ، وذلك لأنه تقرر بالدليل أن المخصوص مرتفع بالابتداء ، ما بعده خبره ، لا خبر مبتدأ مقدر ، إذ لو كان خبر مبتدأ مقدر ، لم تدخل نواسخ الابتداء عليه مقدما على فعل المدح أو الذم ، ومؤخرا عنه ، نحو : كنت نعم الرجل ؛ و :
٧٤٥ ـ يمينا لنعم السيدان وجدتما |
|
على كل حال من سحيل ومبرم (٦) |
فإذا ظهر كونه مبتدأ ما قبله خبره ، فلو كان الخبر باقيا على جمليّته لوجب أن يكون فيها عائد إليه ؛
__________________
(١) في الجزء الثالث من هذا الشرح ؛
(٢) علة لقوله لكنهم التزموا ؛
(٣) أي من باب إضافة الصفة إلى الموصوف ؛
(٤) كثيرا ما يرد الرضي على بعض ما يذكره من آراء النحاة بقوله وهذا قريب من دعوى علم الغيب ، وقد فرض هنا أنه يقال له ذلك فيما ذكره من تفسير نعم الرجل ،
(٥) بيان لأنه لا يقال ذلك ؛
(٦) من معلقة زهير بن أبي سلمى في الجزء الذي يذكر فيه ما فعله هرم بن سنان المري والحارث بن عوف في الصلح بين عبس وذبيان. وأراد بالسحيل والمبرم : الأمور السهلة والصعبة المعقدة. وقد أطلب زهير في الحديث عن هذه القصة في معلقته ؛