ولا قاصر عنك مأمورها غير قولك منهيها ثم قال : وجره قوم فجعلوا المأمور للمنهي والمنهي هو الأمور ؛ لأنه من الأمور وهو بعضها فأجراه وأنثه كما قال جرير :
إذا بعض السّنين تعرّقتنا |
|
كفى الأيتام فقد أبى اليتيم (١) |
__________________
(١) الشاهد : هو أنّ" بعضا" اكتسب التأنيث ممّا بعده بالإضافة ؛ ولهذا قال" تقرّقتنا" بالتأنيث.
قال ابن جنّي في" سرّ الصناعة" عند ما أنشد قول الشاعر : " البسيط" سائل بني أسد ما هذه الصّوت إنّما أنّثه لأنّه أراد الاستغاثة. وهذا من قبيح الضرورة ، أعني تانيث المذكّر ؛ لأنّ التذكير هو الأصل ، بدلالة أنّ الشيء مذكّر وهو يقع على المذكّر والمؤنث ، فعلمت بهذا عموم التذكير وأنّه هو الأصل الذي لا ينكسر. ونظير هذا في الشذوذ قوله ـ وهو من أبيات الكتاب ـ :
إذا بعض السنين تعرّقتنا |
|
كفى الأيتام فقد أبي اليتيم |
وهذا أسهل من تأنيث الصّوت قليلا ، لأنّ بعض السنين سنة ، وهي مؤنثة ، وهي من لفظ السنين ؛ وليس الصّوت بعض الاستغاثة ولا من لفظها. انتهى.
وزاد المبرّد في" الكامل" على هذا الوجه وجها آخر فقال : قوله :
إذا بعض السنين تعرّقتنا |
|
كفى الأيتام فقد أبي اليتيم |
يفسّر على وجهين : أن يكون ذهب إلى أنّ بعض السّنين يؤنّث لأنّه سنة وسنون. والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه فأقحم المضاف إليه توكيدا ، لأنّه" غير" خارج من المعنى.
وفي كتاب الله عز وجلّ : " فظلت أعناقهم لها خاضعين" والخضوع بيّن في الأعناق ، فأخبر عنهم فأقحم الأعناق توكيدا ـ وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول : أعناقهم : جماعتهم ـ والأوّل قول عامّة النّحويّين. انتهى المراد منه.
و" بغض" : فاعل فعل محذوف يفسّره" تعرّقتنا" المذكور ؛ يقال تعرقت العظم : إذا أكلت ما عليه من اللّحم. يريد أنها أذهبت أموالنا ومواشينا. و" السّنة" هنا : القحط والجدب : ضدّ الخصب والرّخاء.
و" كفى" بمعنى أغنى يتعدّى إلى مفعولين ، أوّلهما" الأيتام" وثانيهما" فقد" ، ومصدره الكفاية ، قال تعالى : "وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ" أي : كفى الأيتام فقد آبائهم ، لأنّه أنفق عليهم واعطاهم ما يحتاجون إلأيه ، وكان في الكفاية لهم الحراسة والتّفقدّ لأحوالهم بمنزلة آبائهم.
وأراد أن يقول : كفى الأيتام فقد أبائهم فلم يمكنه فقال : فقد أبي اليتيم ؛ لأنّه ذكر الأيتام أوّلا ، ولكنّه أفرد حملا على المعنى ؛ لأنّ الأيتام هنا اسم جنس ، فواحدها ينوب مناب جمعها ، وبالعكس. وكان المقام مقام الإضمار فأتى بالاسم الظاهر.
وهذا البيت من قصيدة لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان. انظر خزانة الأدب ٢ / ٣١.