فلمّا تفرّق الناس خطب معاوية (١) ، قال : من يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحقّ به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته؟ قال عبد الله : فحللت حبوتي وهممت أن أقول : أحقّ بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع ، وتسفك الدم ، ويحمل عنّي غير ذلك ، فذكرت ما أعدّ الله في الجنان. قال حبيب : حُفظت وعُصمت.
أين كان ابن عمر عن هذه العقليّة التي حُفظ بها وعُصم يوم تقاعس عن بيعة أمير المؤمنين الإمام الحقّ بعد إجماع الأُمّة المسلمة عليها ، ولم يخش أن يقول كلمة تفرّق بين الجمع وتسفك الدم؟ ففرّق الجمع ، وشقّ عصا المسلمين ، وسُفكت دماء زكية ، والله من ورائهم حسيب.
ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخّاة لمعاوية ، بل ينبِئنا التاريخ : أنّه لم يك يتحاشى عن أن يعرفه الناس بالرسالة ، ويقبلونه نبيّا بعد نبيّ العظمة ، روى ابن جرير الطبري بالإسناد : أنّ عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر ، فقال لهم عمرو : انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلّموا عليه بالخلافة فإنّه أعظم لكم في عينه ، وصغّروه ما استطعتم ، فلمّا قدموا عليه ، قال معاوية لحجّابه : إنّي كأنّي أعرف ابن النابغة ، وقد صغّر أمري عند القوم ، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشدّ تعتعة تقدرون عليها ، فلا يبلغني رجل منهم إلاّ وقد همّته نفسه بالتلف ، فكان أوّل من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له : ابن الخياط. فدخل وقد تُعْتِع ، فقال : السلام عليك يا رسول الله فتتابع القوم على ذلك ، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله ، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوّة (٢).
__________________
(١) قال ابن الجوزي : كان هذا في زمن معاوية لمّا أراد أن يجعل ابنه يزيد وليّ عهده. راجع فتح الباري : ٧ / ٣٢٣ [٧ / ٤٠٣]. (المؤلف)
(٢) راجع تاريخ الطبري : ٦ / ١٨٤ [٥ / ٣٣٠ حوادث سنة ٦٠ ه] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٤٠ [٨ / ١٤٩ حوادث سنة ٦٠ ه]. (المؤلف)