ثم لننظر هل فيه من الاستعداد والمُنّة (١) لتبديل السنن المتّبعة التي لا تبديل لها؟ وهل هو من منح الله سبحانه على رعاع الناس ودهمائهم ، فيتقحّمونه كيف شاء لهم الهوى؟ أو أنّ له أصولاً متّبعة لا يعدوها المجتهد من كتاب وسنّة ، أو تأوّل صحيح إن ماشينا القوم في إمضاء الاجتهاد تجاه النصّ ، أو أنّه اتّسعت الفسحة فيه وأطلق الصراح حتى نزا عليه كلّ أرنب وثعلب ، وتحرّاه كلّ بوّال على عقبيه ، أو أعرابيّ جلف جاف؟ أنا لا أكاد أُسوّغ للعلماء القول بتصحيح مثل هذا الاجتهاد ، وإنّما المتسالم عليه بينهم ما يلي :
قال الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام (٢) (٤ / ٢١٨) : أمّا الاجتهاد : فهو في اللغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأُمور مستلزم للكلفة والمشقّة ، ولهذا يُقال : اجتهد فلان في حمل حجر البزّارة ، ولا يُقال : اجتهد في حمل خردلة.
وأمّا في اصطلاح الأصوليّين ، فمخصوص باستفراغ الوسع في طلب الظنّ بشيء من الأحكام الشرعيّة على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد فيه.
وأمّا المجتهد ، فكلّ من اتّصف بصفة الاجتهاد ، وله شرطان :
الشرط الأوّل : أن يعلم وجود الربّ تعالى ، وما يجب له من الصفات ، ويستحقّه من الكمالات ، وأنّه واجب الوجود لذاته ، حيّ ، عالم ، قادر ، مريد ، متكلّم ، حتى يتصوّر منه التكليف. وأن يكون مصدّقاً بالرسول ، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر على يده من المعجزات ، والآيات الباهرات ، ليكون فيما يسنده إليه من الأحكام محقّقاً ، ولا يشترط أن يكون عارفاً بدقائق علم الكلام ، متبحّراً فيه كالمشاهير من المتكلّمين ، بل أن يكون مستند علمه في ذلك بالدليل المفصّل ، بحيث
__________________
(١) المُنّة : القوة.
(٢) الإحكام في أصول الأحكام : ٤ / ١٦٩.