الأجل المذكور نحر جزوراً شكراً على ما أتيح له من تلك النعمة بعد جهود جبّارة ، والله يعلم ماعاناه طيلة تلكم المدّة من عناء ومشقّة ، وهذا الرجل ثاني الأُمّة عند القوم في العلم والفضيلة ، وكان من علمه بالكتاب أنّه لم يعِ تنصيصه على موت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا سمع قوله تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (١) ألقى السيف من يده ، وسكنت فورته ، وأيقن بوفاته صلىاللهعليهوآلهوسلم كمن لم يقرأ الآية الكريمة إلى حينه ، وإن تقس موارد علمه بالكتاب ونصوصه ، قضيت منها العجب ، وأعيتك الفكرة في مبلغ فهمه ، وما ذا الذي كان يُلهيه عن الخبرة بأصول الإسلام وكتابه؟ ولئن راجعت فيما يؤول إلى هذا الموقف (الجزء السادس) من هذا الكتاب رأيت العجب العجاب.
وليس من البعيد عنه أوّل رجل في الإسلام عند القوم ، الذي بلغ من القصور والجهل بالمبادئ والخواتيم والأشكال والنتائج حدّا لا يقصر عنه غمار الناس والعاديون منهم الذين أشرقت عليهم أنوار النبوّة منذ بزوغها ، ولعلّك تجد في الجزء السابع من هذا الكتاب (٢) ما يلمسك باليد يسيراً من هذه الحقائق.
وأنت إذن في غنىً عن استحفاء أخبار كثير من أولئك الأوّلين الذين لا تعزب عنك أنباؤهم في الفقه والحديث والكتاب والسنّة ، فكيف بمثل معاوية الملتحق بالمسلمين في أُخْريات أيّامهم (٣)؟ وكانت تربيته في بيت حافل بالوثنيّة ، متهالك في الظلم والعدوان ، متفانٍ في عادات الجاهليّة ، ترفّ عليه رايات العهارة وأعلام البغاء ، وإذا قرع سمع أحدهم دعاء إلى وحي أو هتاف بتنزيل جعل إصبعه في أذنه ، وراعته من ذلك خاطرة جديدة لم يكن يتهجّس بها منذ آبائه الأوّلين.
نعم ؛ المعروفون بعلم الكتاب على عهد الصحابة أناس معلومون ، وكانوا
__________________
(١) الزمر : ٣٠.
(٢) أنظر الغدير : ٧ / ١٣٨ ـ ١٨٠.
(٣) مراده قدسسره أخريات أيامهم مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.