وما خصوصيّة عهد عمر في قبول الرواية ورفضها؟ ألأنّ الحقائق تمحّصت فيه؟ ومن ذا الذي محّصها؟ أم لأنّ التمحيص أفرد فيه الصحيح من السقيم؟ ومن ذا الذي فعل ذلك؟ أم أنّ يد الأمانة قبضت على السنّة عندئذ ، وعضّتها بالنواجذ حرصاً عليها ، فلم يبق إلاّ لبابها المحض؟ فمتى وقعت تلكم البدع والتافهات؟ ومتى بدّلت السنن؟ ومتى غيّرت الأحكام؟ راجع الجزء السادس وهلمّ جرّا.
ولعلّ قول معاوية هذا في سنّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كافٍ في قلّة اعتداده بها ، أو أنّه كان ينظر إليها نظر مستخفّ بها ، وكان يستهين بقائلها مرّة ، ويضرط لها إذا سمعها مرّة أخرى ، وينال من رواتها بقوارص طوراً ، وينهى راويها عن الرواية بلسان بذيء بكلّ شدّة وحدّة ، إلى أشياء من مظاهر الهزء والسخريّة (١) فما ظنّك بمن هذا شأنه مع السنّة الشريفة؟ فهل تُذعن له أنّه يعبأ بها ويحتجّ بها في موارد الحاجة ، ويأخذها مدركاً عند عمله؟ أو ينبذها وراء ظهره كما فعل ذلك في موارده ومصادره كلّها؟
وإنّ حداثة عهد معاوية بالإسلام وأخذه بالروايات بعد كلّ ما قدّمناه ، وما كان يُلهيه عن الإصاخة إليها طيلة أيّامه من كتابة وإمارة وملوكيّة ، وإنّ حياته في دور الإسلام كلّها كانت مستوعبة بضروب السياسة وإدارة شئون الملك والنزاع والمخاصمة دونه ، فمتى كان يتفرّغ لأخذ الروايات وتعلّم السنن؟ ثم من ذا الذي أخذ عنه السنّة؟ والصحابة جلّهم في منتأى عن مباءته ـ الشام ـ ، ولم يكن معه إلاّ طليق أعرابيّ ، أو يمانيّ مستدرج ، وهو يسيء ظنّه بجملة الصحابة المدنيّين ، حملة الأحكام ونقلة الأحاديث النبويّة ، ويقول بملء فمه : إنّما كان الحجازيّون هم الحكّام على الناس والحقّ فيهم ، فلمّا فارقوه كان الحكّام على الناس أهل الشام (٢). وعلى أثر ظنّه السيّئ وقوله الآثم كان يمنع هو وأُمراؤه عن الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما يظهر ممّا
__________________
(١) راجع تفصيل كلّ هذه فيما أسلفناه في هذا الجزء : ص ٢٨١ ـ ٢٨٤. (المؤلف)
(٢) راجع صفحة ٣١٩ من هذا الجزء. (المؤلف)