فما ذهب إليه بعض المفسّرين : من أنّ المراد من هذا الاستفسار هو عن السؤال مقدار انتظارهم في عالم البرزخ ، بعيد حسب الظاهر ، رغم وجود شواهد قليلة على ذلك في آيات أخرى (١).
إلّا أنّهم يرون في هذه المقارنة أنّ الدنيا قصيرة جدّا جدّا (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
والحقيقة أنّ الأعمار الطويلة في الدنيا كسحابة صيف لو قارناها بحياة الآخرة ، حيث النعم الخالدة والعقاب غير المحدود.
وللتأكيد أو للردّ بدقّة قالوا (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) أي : ربّاه اسأل الذين يعرفون أن يعدّوا الأعداد ويحسبوها بدقّة حين مقارنة بعضها مع بعض ، ويمكن أن يكون القصد من كلمة «العادّين» الملائكة الذين يحسبون أعمار الناس وأعمالهم بدقّة ، لأنّ هؤلاء يجيدون الحساب أفضل من غيرهم.
وهنا يؤنّبهم الله ويستهزئ بهم (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) فسوف يدركون يوم القيامة مدى قصر عمر الدنيا المحدود بالنسبة لعمر الآخرة الممدود ، فالعمر الأوّل ما هو إلّا كلمة بصر ، ولكنّهم كانوا يتصوّرونه خالدا ، لأنّ حجب الغفلة وآثارها قد أسدلت على قلوبهم ، فحجبتها عن رؤية الحقّ ، فاستهانوا بالآخرة وحسبوها وعدا آجلا بعيدا ، لهذا قال لهم الله عزوجل : لو أنّكم كنتم تعلمون لأدركتم هذه الحقيقة التي توصّلتم إليها يوم القيامة في دنياكم (٢).
__________________
(١) نقرأ في سورة الروم الآية (٥٥) و (٥٦) : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ، وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ، فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ ، وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تبيّن هاتان الآيتان أنّ الاستفسار والردّ خاص بالتوقّف في البرزخ ، وإذا جعلناه دليلا على الآيات موضع البحث ، فمفهومها سيكون أيضا التوقّف في البرزخ ، إلّا أنّه كما قلنا : إنّ الدلائل الموجودة ـ في الآيات موضع البحث ـ مقدّمة عليها ، وإنّها تبيّن أنّ الاستفسار وجوابه يخصّ التوقّف في الدنيا.
(٢) إن «لو» في الآية السابقة شرطية كما قلنا سابقا. وهناك جملة تقديريّة محذوفة فتكون «لو أنّكم كنتم تعلمون» لعلمتم