إرادة ، دليلا على جواز عبادة العجل ، وصحّة تلك العبادة؟
وعلى فرض أنّه أجابهم عن أسئلتهم ، فإنّه لا يعدو أن يكون كإنسان عاجز لا يملك نفع غيره ولا ضرّه ، بل وحتّى نفسه ، فهل يمكن أن يكون معبودا وهو على هذا الحال؟
أي عقل يسمح بأن يعبد الإنسان تمثالا لا روح له يظهر منه بين الحين والآخر صوت غير مفهوم ، ويعظمه ويخضع أمامه؟
ولا شكّ أنّ هارون ، خليفة موسى ونبي الله الكبير ، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء ، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع ، كما يقول القرآن : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) ثمّ أضاف : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ).
لقد كنتم عبيدا فحرّركم ، وكنتم أسرى فأطلقكم ، وكنتم ضالّين فهداكم ، وكنتم متفرّقين مبعثرين فجمعكم ووحدّكم تحت راية رجل ربّاني ، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم ، فالآن (فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي).
أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلما ذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟
إلّا أنّ بني إسرائيل تمسكوا بهذا العجل عنادا ، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل ، ولا أدلّة هذا القائد الحريص ، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (١).
والخلاصة : إنّهم ركبوا رؤوسهم وقالوا : الأمر هو هذا ولا شيء سواه ، ويجب أن نعبد العجل حتّى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء ، فلعلّه يسجد معنا
__________________
(١) (لن نبرح) من مادّة (برح) بمعنى الزوال ، وإنّ ما نراه في أنّ معنى جملة (برح الخفاء) أي الظهور والوضوح لأنّ زوال الخفاء ليس إلّا الظهور ، ولمّا كانت (لن) تدلّ على النفي ، فإنّ معنى جملة (لن نبرح) أننا سنستمر في هذا العمل.