يوما من الأيام قد سألته جارية عن شيء من تفسير الرؤيا ، فقال : أنا حاقن ثم مضى ، فلما كان من غد : عاد وقد صار معبرا للرؤيا ، وذاك أنه مضى من يومه فدرس كتاب الكرماني وجاء. قال : وكان يأخذ الرطب يشمه ويقول : أما إنك لطيب ، ولكن أطيب منك حفظ ما وهب الله لي من العلم.
قال محمّد بن جعفر : ومات ابن الأنباريّ فلم نجد من تصنيفه إلا شيئا يسيرا ، وذاك أنه إنما كان يملي من حفظه ، وقد أملى كتاب غريب الحديث ، قيل إنه خمس وأربعون ألف ورقة ، وكتاب شرح الكافي وهو نحو ألف ورقة ، وكتاب الهاءات ، نحو ألف ورقة ، وكتاب الأضداد ـ وما رأيت أكبر منه ـ وكتاب المشكل أملاه وبلغ إلى (طه) وما أتمه وقد أملاه سنين كثيرة ، والجاهليات ، سبعمائة ورقة ، والمذكر والمؤنث ما عمل أحد أتم منه ، وعمل رسالة المشكل ردا على ابن قتيبة وأبي حاتم ونقضا لقولهما ، وحدثت عنه أنه مضى يوما في النخاسين وجارية تعرض حسنة كاملة الوصف ، قال : فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى أمير المؤمنين الراضي فقال لي : أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته ، فأمر بعض أسبابه فمضى فاشتراها وحملها إلى منزلي ، فجئت فوجدتها ، فعلمت الأمر كيف جرى فقلت لها : كوني فوق إلى أن أستبرئك ، وكنت أطلب مسألة قد أحيلت على فاشتغل قلبي ، فقلت للخادم : خذها وامض بها إلى النخاس فليس قدرها أن تشغل قلبي عن علمي ، فأخذها الغلام ، فقالت : دعني أكلمه بحرفين! فقالت : أنت رجل لك محل وعقل ، وإذا أخرجتني ولم تعين لي ذنبي لم آمن أن يظن الناس في ظنا قبيحا ، فعرفنيه قبل أن تخرجني. فقلت لها : مالك عندي عيب غير أنك شغلتني عن علمي! فقالت : هذا أسهل عندي. قال فبلغ الراضي أمره فقال : لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في صدر هذا الرجل. ولما وقع في علة الموت أكل كل شيء كان يشتهي ، وقال : هي علة الموت.
حدّثنا أبو بكر محمّد بن أحمد بن عبد الله النّحويّ المؤدّب ـ مذاكرة من حفظه ـ قال حدّثني أبي قال سمعت أبا بكر بن الأنباريّ يقول : دخلت البيمارستان بباب المحول فسمعت صوت رجل في بعض البيوت يقرأ : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) [العنكبوت ١٩] فقال : أنا لا أقف إلا على قوله : (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ) فأقف على ما عرفه القوم وأقروا به ، لأنهم لم يكونوا يقرون بإعادة الخلق ، وابتدئ بقوله : (ثُمَّ يُعِيدُهُ) فيكون خبرا ، وأما ما قرأه علي بن أبي طالب : (وَادَّكَرَ بَعْدَ