معائشهم ، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به ، وكالجاري مجرى التفكه. وما قاله منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص. وقد رددنا عليه ذلك في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) (١) والظاهر أنّ من للتبعيض كقولك : إذا أكلت من الرغيف. وقال الزمخشري : ويحتمل أنّ طعمتكم منها لأنكم تحرثون بالبقر ، والحب والثمار التي تأكلونها منها ، وتكتسبون بإكراء الإبل ، وتبيعون نتاجها وألبانها وجلودها انتهى. فعلى هذا يكون التبعيض مجازا ، أو تكون من للسبب. الجمال مصدر جمل بضم الميم ، والرجل جميل ، والمرأة جميلة وجملاء عن الكسائي وأنشد :
فهي جملاء كبدر طالع |
|
بزت الخلق جميعا بالجمال |
ويطلق الجمال ويراد به التجمل ، كأنه مصدر على إسقاط الزوائد. والجمال يكون في الصورة بحسن التركيب يدركه البصر ، ويلقيه في ألقاب ، فتتعلق به النفس من غير معرفة. وفي الأخلاق باشتمالها على الصفات المحمودة : كالعلم ، والعفة ، والحلم ، وفي الأفعال : بوجودها ملائمة لمصالح الخلق ، وجلب المنفعة إليهم ، وصرف الشر عنهم. والجمال الذي لنا في الأنعام هو خارج عن هذه الأنواع الثلاثة ، والمعنى : أنه لنا فيها جمال وعظمة عند الناس باقتنائها ودلالتها على سعادة الإنسان في الدنيا ، وكونه فيها من أهل السعة ، فمنّ الله تعالى بالتجمل بها ، كما منّ بالانتفاع الضروري ، لأن التجمل بها من اغراض أصحاب المواشي ومفاخر أهلها ، والعرب تفتخر بذلك. ألا ترى إلى قول الشاعر :
لعمري لقوم قد نرى أمس فيهم |
|
مرابط للإمهاز والعكر الدثر |
أحب إلينا من أناس بقنة |
|
يروح على آثار شائهم النمر |
والعكرة من الإبل ما بين الستين إلى السبعين ، والجمع عكر. والدثر الكثير ، ويقال : أراح الماشية ردها بالعشيّ من المرعى ، وسرحها يسرحها سرحا وسروحا أخرجها غدوة إلى المرعى ، وسرحت هي يكون متعديا ولازما ، وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذا سقط الغيث وكبر الكلأ وخرجوا للنجعة. وقدم الإراحة على السرح لأنّ الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون ، حافلة الضروع ، ثم أوت إلى الحظائر ، بخلاف وقت سرحها ، وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية ، وتجاوب فيها الرغاء والثغاء ، فيأتنس أهلها ، وتفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها ، وتكسبهم الجاه والحرمة لقوله تعالى : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ
__________________
(١) سورة فاتحة الكتاب : ١ / ٤.