أحدهما : أنه لما كان وجوده حتما جاز أن يسمى شيئا وهو في حالة عدم. والثاني : أن قوله لشيء تنبيه على الأمثلة التي ينظر فيها ، وأنّ ما كان منها موجودا كان مرادا ، وقيل له : كن فكان ، فصار مثالا لما يتأخر من الأمور بما تقدّم ، وفي هذا مخلص من تسمية المعدوم شيئا انتهى. وفيه بعض تلخيص. وقال : إذا أردناه منزل منزلة مراد ، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أنّ الموجودات تجيء وتظهر شيئا بعد شيء ، فكأنه قال : إذا ظهر المراد فيه. وعلى هذا الوجه يخرج قوله : (فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ) (١) وقوله : ليعلم الذين آمنوا منكم ونحو هذا معناه يقع منكم ما أراد الله تعالى في الأزل وعلمه ، وقوله : أن نقول ، ينزل منزلة المصدر كأنه قال قولنا ، ولكن أن مع الفعل تعطى استئنافا ليس في الصدر في أغلب أمرها ، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية. وكقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) (٢) وغير ذلك انتهى. وقوله : ولكن أنّ مع الفعل يعني المضارع ، وقوله : في أغلب أمرها ليس بجيد ، بل تدل على المستقبل في جميع أمورها. وأما قوله : وقد تجيء إلى آخره ، فلم يفهم ذلك من دلالة أن ، وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله ، لأنّ هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى. ونظيره (كانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) (٣) فكان تدل على اقتران مضمون الجملة بالزمن الماضي ، وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضيا وحالا ومستقبلا ، وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه عن غير ذلك الزمن. والذين هاجروا قال قتادة : نزلت في مهاجري أصحاب الرسول صلىاللهعليهوسلم. وقال داود بن أبي هند : في أبي جندل بن سهيل بن عمرو. وعن ابن عباس : في صهيب ، وبلال ، وخباب بن الأرت ، وأضرابهم عذبهم المشركون بمكة ، فبوأهم الله المدينة. وعلى هذا الاختلاف في السبب يتنزل المراد بقوله : والذين هاجروا. قال ابن عطية : لما ذكر الله كفار مكة الذين أقسموا بأنّ الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور وهو الصحيح في سبب الآية ، لأنّ هجرة المدينة ما كانت إلا بعد وقت نزول الآية انتهى. والذين هاجروا ، عموم في المهاجرين كائنا ما كانوا ، فيشمل أولهم وآخرهم. وقرأ الجمهور : لنبوأنهم ، والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي : تبوئة حسنة. وقيل : انتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر ، لأنّ معنى لنبوأنهم
__________________
(١) سورة التوبة : ٩ / ١٠٥.
(٢) سورة الروم : ٣٠ / ٢٥.
(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٢٧.