فأقبلنا على الجب فصار رفقائي يتسابقون إليه ، فرميت نفسي من على ظهر الجمل على الأرض وابتدأت أبكي ، إذ تصور بعقلي من شدة احتراقي وعطشي أنهم سيشربون كل الجب ولا يبقون لي شيئا ، فعادوا وصاروا يضحكون من عقلي وقالوا : أنت عدمت عقلك فهذا الجب يكفي جيوش عنزة (١) وطروشها ولا يخلص ، ونحن ستة أنفار نريد أن نشرب الجب بكامله. ثم وصلنا وحين صرنا على فم الجب ركض واحد من العرب اسمه غلفص ، واشهر سيفه وجلس على فم الجب وقال : كل من قرب منكم قطعت رأسه ورميته بالجب ، اقعدوا وأنا أسقيكم بمعرفتي. فأخذني أولا ووضع رأسي عند فم الجب وقال : شم رائحة الماء فقط شما. فابتدأت اترجاه وأسأله بإلحاح (٢) أن يسقيني. فبعد حصة أخرج قليلا من الماء قدر نصف وقية ، وصار يأتي بالواحد بعد الآخر ويدهن شفاهنا ولساننا دهنا بالماء فقط. ثم بعد حصة أخرى أخرج كمية أكبر من الماء ، وصار يعطي لكل واحد نحو نصف فنجان قهوة ٢ / ٧٣ ماء ، وبعد حصة قدر فنجان وبعد قليل قدر فنجانين / (٣). ولم يزل يدرجنا رويدا رويدا مقدار أربع ساعات حتى شبعنا ماء. وأخيرا قام من على الجب وقال : اشربوا قدر ما تريدون. وقال : لو لم أفعل ذلك معكم لكنتم متّم جميعكم إلى جانب الجب. وبالحقيقة كم من السواح وغيرهم الذين بلغنا عنهم أنهم ماتوا من شرب الماء بعد عطش. فبتنا تلك الليلة إلى جانب الجب من غير أكل ، فقط على الماء ، وكنا نشرب كل ربع ساعة وما كنا نروى. فأصبحنا ثاني يوم وكان أمامنا تل عال فصعدنا عليه عسانا نرى عربا نذهب عندهم فما رأينا شيئا إلا أن أحد رفقائنا رأى عربا نازلة بعيدا جدا ، فصار يرينا مكان نزولهم ويعلّم لنا ، ولكن ما كنا نستطيع أن نرى النزل ، حتى أكد لنا أن بينهم بيتا كبيرا على ستة عواميد وأمامه شيء أحمر. فاعتمدنا على كلامه إذ شهد رفقاؤه أنه حاد البصر بعيد النظر جدا ، فتوكلنا على الله ومشينا بسرعة. فبعد ثماني ساعات وصلنا عند العرب ووجدنا أن كلامه صحيح : بيت كبير على ستة عواميد ، وأمامه هودج امرأة الأمير وهو ملبس بالجوخ الأحمر. وكانوا هم عرب السّلقا الذين كنا نبحث عنهم ، وذلك البيت هو بيت جاسم ابن حريميس. فدخلنا وسلمنا عليه ، وأعطيناه المكتوب الذي معي وهو بخطي وقد كتبته ليكون وسيلة للوصول إليه. فأخذ
__________________
(١) «عنازة».
(٢) «اتدخل عليه».
(٣) ورقة ٢ / ٧١ بياض ـ وقد أعاد الصائغ ترتيب الصفحات فجاءت ورقة ٢ / ٧٣ بعد ١ / ٧١ ، وأخّر بعض المقاطع وقدّم غيرها ، ونحن أعدنا سبكها على حسب تعليمات المؤلف.