قد قربوا من الديرة (١) ، وفي الشتاء ، حين يتوغلون في البادية على حسب عوائدهم ، يعود إلى داره ويعمل في دكانه بالبلد.
ثم ابتدأ الخواجه لاسكاريس يسأله ، بكل رقة ، ورويدا رويدا ، عن العرب وأحوالهم ومزاياهم وطباعهم ومعيشتهم وسلوكهم وشؤونهم وضيافتهم ، وعن أمور كثيرة ، وهو يرد عليه بالصدق والصواب دون تردد. فسررنا منه جدا لأنه أفادنا جدا في أمور يقتضي علينا معرفتها.
وكنا نتجول كل يوم في البلد ، ونتنزه في بساتينها وذلك لتمضية الوقت ، إلى أن يمضي الشتاء ويقرب عربان هذه الديار من المعمورة ، حتى نتمكن من الوصول إليهم. لأن من عادة العربان أن يبتدؤا بالتوغل في البادية من شهر تشرين الأول ، فيذهبون إلى الجهات الشرقية (٢) بجمالهم وخيلهم ومواشيهم ، حيث يجدون الدفء والماء والمراعي. وهم دائما في حل وترحال لا يستقيمون في منزلة أكثر من يومين أو ثلاثة أيام ، ويظلون على تشريقهم إلى أن يصل البعض منهم إلى بغداد ، والبعض إلى البصرة وشط العرب حيث يلتقي الدجلة والفرات وتصب مياههما في خليج (٣) العجم. ثم من شهر شباط يبتدؤن بالاقتراب من نواحي بلاد ١ / ٨ سورية ، وفي شهر نيسان يظهرون في الديار الشامية ، وهذه حالهم دائما. /
وبعد ذلك قال لي الخواجه لاسكاريس : يا فتح الله ، أريد منك أن تشتري لنا عشر فروات مثل التي اشتريتها ، وعشرة مشالح سود وخمسين كوفية (٤). والكوفية تصير مدورة بحجم (٥) المنديل (٦) ، وهي مصنوعة من غزل وحرير مصبوغ أحمر وأصفر وأخضر. وهذه الكوفية لا بدّ منها على رأس كل بدوي ، مهما كان عمره ومقامه ، من الراعي الصغير الفقير الحال إلى الأمير الكبير ، ولا يمكن أن يستغني عنها أحد. حمص تشتغل هذه السلع ، وكذلك حماة ودمشق وحلب وبغداد والموصل وماردين والبصرة ، وكل البلاد التي تحت حكم بغداد وكركوت ، ومع ذلك فإن جميع ما يصنع في هذه الديار من الكوفيات لا يسد بحاجة العربان.
__________________
(١) الديار.
(٢) «يشرّقوا».
(٣) «بوغاظ».
(٤) «كيفية».
(٥) «قدّ».
(٦) «محرمة».