قبرا ، على الطريقة القديمة مثل الأبراج ، وداخلها مخادع ، لكل ميت مخدع على قدّه وصورته من حجر فوق مخدعه ، وكل قبر من ثلاث إلى أربع طبقات يصعد إليها بسلم حجري ، أما السقوف فمن الحجر أيضا. ثم دخلنا المكان الآهل بالسكان ، الذي يطلق عليه اليوم اسم القلعة ، مع أنه في الواقع هيكل الشمس ، وكان في داخله نحو مئتي عائلة.
دخلنا تدمر وكان معنا كتاب توصية من شيخ القريتين إلى شيخ تدمر المدعو رجب العروق. وكان رجلا مسنا (١) ، جليلا ، وقد فرضت عليه الدولة تقديم نصف تكاليف حملة الحجاج ، مثل الشيخ سليم ، إلى وزير الشام ، كما تقدم الشرح سابقا. فدخلنا وسلمنا عليه فترحّب بنا وأكرمنا غاية الإكرام. وفي اليوم الثاني طلبنا من فضله أن يجد لنا مكانا نقعد نبيع رزقنا فيه ، فأعطانا بيتا صغيرا بالقرب منه. وأما سلامة ، فأبتدأ أهل تدمر تداويه إلى أن صحّ نوعا ما ، فوهبنا له مالا (٢) وافرا فركب وذهب عند أهله. وابتدأنا نحن نداوي قدم الشيخ إبراهيم خلال عدة أيام حتى استراح.
ثم فتحنا رزقنا وابتدأنا نبيع إلى أهل تدمر ، حتى نتم القول بالفعل ونظهر للناس أننا تجار (٣). وكنا كل يومين أو ثلاثة نذهب وندور بين الخرائب ، فرأينا الأشياء التي تدهش الأبصار. ولا إفادة من وصف ما شاهدناه لأن هذا المكان مشهور ، وكتب عنه كثير من أمثالنا من السواح ، وسيكتب عنه بعدنا. وفي بعض الأيام خرجنا نتنزه ونمتع أبصارنا ، لأننا كنا كل يوم نرى شيئا جديدا من الأمور التي تحير الأفكار ، فوجدنا عددا كبيرا من أهالي تدمر مجتمعين حول عامود كبير ، أمام باب الهيكل ، وهم يريدون أن يشعلوا النيران حوله كي يسقط ويأخذوا ما في داخله من الرصاص لبيعه ، وهذا ما كانوا فعلوه سابقا في كثير من العواميد العظام. فحين نظرنا ذلك تألمنا وقلنا : أين عيون الذين نصبوا هذا العامود ، وكم أنفقوا من الذهب حتى رفعوا هذا العامود العظيم في هذا المكان. والآن يريد هؤلاء الجهلاء الغشماء كسره وفناءه لأجل ربح دني. فقال لهم الشيخ إبراهيم : يا جماعة ، أنا رجل أصلي من قبرص ، وعادتنا لا نحب الخراب ، فاحسبوا قيمة الرصاص الذي ستكسبونه من هذا العامود وأنا أسلمها لكم ولا تكسروا وتعطلوا هذه القطعة النادرة الوجود. فقالوا نستخرج منه كمية من الرصاص نبيعها بدمشق بنحو خمسين غرشا. فقال لهم : هذه الخمسون غرشا واتركوا
__________________
(١) «ختيار».
(٢) «بخشيش».
(٣) «بياعين رزق».