وفي اليوم الثاني أمر المهنا أن يذبحوا لنا جملا وذلك لأجل إكرامنا ، لأننا استخبرنا عن ذلك فأخبرونا أن هذه عادة العربان إذا أرادوا أن يكرموا ضيوفهم إذا كانت الضيوف غالية عليهم جدا ، فهم يذبحون جملا لأنه أكبر ما عندهم. فأكلنا ذلك اليوم لحم الجمل للمرة الأولى ، فوجدنا أن طعمه كلحم الغزال نوعا ما. والنتيجة أنه حصل لنا إكرام زائد لأنه بيت ١ / ٢٠ مشهور بالكبر والقدم والصيت والكرم. ومهنا رجل / طاعن بالسن ، عمره نحو ثمانين سنة ، حقير من الرجال (١) ، ذقنه مثل الكوساة ، شديد الطرشة ، يجب على من يتكلم معه أن يصرخ بأعلى صوته حتى يسمع ، ضعيف الجسم ، غشيم على بركة الله ، ملبوسه زري جدا. إنما محاسنة كثيرة : نظيف القلب لا يعرف الغش ، كريم ومن بيت قديم من أكابر العرب. فهذه المحاسن تغطي على عيوبه ، وتجعله مقبولا عند العرب وعند الحكام في البلاد ، لأن عليه وظيفة من طرف والي الشام قديمة العهد ، وهو يرافق الحجاج إلى مكة من دمشق ذهابا وإيابا. وله من وزير دمشق كل سنة خمسة وعشرون كيسا يقبضها قبل ذهاب الحجاج يسمونها الصّرّ (٢). له ثلاثة أولاد أكبرهم ناصر وهو الذي تقدم ذكره ، وثانيهم فارس وثالثهم حمد ، جميعهم فرسان يركبون الخيل ومتزوجون وكلهم في بيت واحد. فالبيت طوله ثلاثون ذراعا ، من الشعر الأسود ، مقسوم إلى ثلاثة أقسام بقواطع من جنسه أي من الشعر. القاطع الأقصى للطبخ والمؤنة والعبيد والخدام ، والثاني للحريم والنوم ، والثالث من الطرف الآخر ديوان مجلس الرجال يسمونه ربعة. هذا الذي عرفناه ثاني يوم من وصولنا عنده.
وفي اليوم الثالث فتحنا بضائعنا وابتدأنا نبيع للعربان. فازدحمت علينا النساء للشراء لأنهن رأين أن بضاعتنا جيدة ورخيصة ، فكنت أقول للشيخ إبراهيم : يا سيدي ، هذا السعر لا يلائم ، نحن نخصر عليهن ، فقال : فكأني بك نسيت الشرط الذي بيننا : لا تعارض ولا تسأل عما أفعل. فسكت وقلت بنفسي الحق عليه.
هذا وبعد يومين رأينا أن بعض عربان هذه القبيلة أخذوا يتواردون ويجتمعون خارج البيوت بالسهل ، إلى أن صاروا نحو خمسين نفرا بخيولهم ورماحهم. وخرج ناصر المهنا من البيت هو وابن عم له يقال له الشيخ زامل ، وذهبا حيث اجتمعت الناس ، وبقيا هناك نحو ساعتين ثم رجعا. أما الخيالة فكل واحد منهم ركب وذهب إلى بيته. فصرنا نحن نتشوق
__________________
(١) كذا ، والصائغ يريد أن يقول : لا يؤخذ بعين الاعتبار.
(٢) الصّرّ : راتب تقدمه الدولة لبعض كبار المشايخ للمحافظة على الحجاج ، ولعل هذه الكلمة محرفة عن الصّرّة أي كيس الدراهم.