ولذلك عديت رؤيا المنام الصادقة إلى ضمير النبي ، في قوله : (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ)[الأنفال : ٤٣] وجعلت الرؤية البصرية الخاطئة مسندة إلى ضمائر الجمعين ، وظاهر الجمع يعمّ النبيصلىاللهعليهوسلم فيخصّ من العموم. أرى الله المسلمين أنّ المشركين قليلون ، وأرى المشركين أنّ المسلمين قليلون. خيل الله لكلا الفريقين قلّة الفريق الآخر ، بإلقاء ذلك التخيّل في نفوسهم ، وجعل الغاية من تينك الرؤيتين نصر المسلمين ، وهذا من بديع صنع الله تعالى إذ جعل للشيء الواحد أثرين مختلفين ، وجعل للأثرين المختلفين أثرا متّحدا ، فكان تخيّل المسلمين قلّة المشركين مقويّا لقلوبهم ، وزائدا لشجاعتهم ، ومزيلا للرعب عنهم ، فعظم بذلك بأسهم عند اللقاء ، لأنّهم ما كان ليفلّ من بأسهم إلّا شعورهم بأنّهم أضعف من أعدائهم عددا وعددا ، فلمّا أزيل ذلك عنهم ، بتخييلهم قلّة عدوّهم ، خلصت أسباب شدّتهم ممّا يوهنها. وكان تخيّل المشركين قلّة المسلمين ، أي كونهم أقلّ ممّا هم عليه في نفس الأمر ، بردا على غليان قلوبهم من الغيظ ، وغارّا إياهم بأنّهم سينالون التغلّب عليهم بأدنى قتال ، فكان صارفا إيّاهم عن التأهّب لقتال المسلمين ، حتّى فاجأهم جيش المسلمين ، فكانت الدائرة على المشركين ، فنتج عن تخيّل القلّتين انتصار المسلمين.
وإنّما لم يكن تخيل المسلمين قلة المشركين مثبطا عزيمتهم ، كما كان تخيّل المشركين قلّة المسلمين مثبطا عزيمتهم ، لأنّ المسلمين كانت قلوبهم مفعمة حنقا على المشركين ، وإيمانا بفساد شركهم ، وامتثالا أمر الله بقتالهم ، فما كان بينهم وبين صبّ بأسهم على المشركين إلّا صرف ما يثبط عزائمهم. فأمّا المشركون ، فكانوا مزدهين بعدائهم وعنادهم ، وكانوا لا يرون المسلمين على شيء ، فهم يحسبون أنّ أدنى جولة تجول بينهم يقبضون فيها على المسلمين قبضا ، فلذلك لا يعبئون بالتأهّب لهم ، فكان تخييل ما يزيدهم تهاونا بالمسلمين يزيد تواكلهم وإهمال إجماع أمرهم.
قال أهل السير : كان المسلمون يحسبون عدد المشركين يتراوح بين السبعين والمائة وكانوا في نفس الأمر زهاء ألف ، وكان المشركون يحسبون المسلمين قليلا ، فقد قال أبو جهل لقومه ، وقد حرز المسلمين : إنّما هم أكلة جزور ، أي قرابة المائة ، وكانوا في نفس الأمر ثلاثمائة وبضعة عشر.
وهذا التخيل قد يحصل من انعكاس الأشعّة واختلاف الظّلال ، باعتبار مواقع الرائين من ارتفاع المواقع وانخفاضها ، واختلاف أوقات الرؤية على حسب ارتفاع الشمس ، وموقع الرائين من مواجهتها أو استدبارها ، وبعض ذلك يحصل عند حدوث الآل