المطلب حين أسرّ ببدر أنّه مسلم ، وأنّ المشركين أكرهوه على الخروج إلى بدر ، ولعلّ بعض الأسرى غيره قد قال ذلك وكانوا صادقين ، فلعل بعض المسلمين عطفوا عليهم وظنّوهم أولياء لهم ، فأخبر الله المسلمين وغيرهم بحكم من آمن واستمرّ على البقاء بدار الشرك. قال ابن عطية : «مقصد هذه الآية وما بعدها تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا والكفار ، والمهاجرين بعد الحديبية وذكر نسب بعضهم عن بعض».
وتعرضت الآية إلى مراتب الذين أسلموا فابتدأت ببيان فريقين اتّحدت أحكامهم في الولاية والمؤاساة حتى صاروا بمنزلة فريق واحد ، وهؤلاء هم فريقا المهاجرين والأنصار الذين امتازوا بتأييد الدين. فالمهاجرون امتازوا بالسبق إلى الإسلام وتكبّدوا مفارقة الوطن. والأنصار امتازوا بإيوائهم ، وبمجموع العملين حصل إظهار البراءة من الشرك وأهله ، وقد اشترك الفريقان في أنّهم آمنوا وأنّهم جاهدوا ، واختص المهاجرون بأنّهم هاجروا واختص الأنصار بأنّهم آووا ونصروا ، وكان فضل المهاجرين أقوى ؛ لأنّهم فضلوا الإسلام على وطنهم وأهليهم ، وبادر إليه أكثرهم ، فكانوا قدوة ومثالا صالحا للناس.
والمهاجرة هجر البلاد ، أي الخروج منها وتركها ، قال عبدة بن الطبيب :
إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة |
|
بكوفة الجند غالت ودّها غول |
وأصل الهجرة الترك واشتقّ منه صيغة المفاعلة لخصوص ترك الدار والقوم ، لأنّ الغالب عندهم كان أنّهم يتركون قومهم ، ويتركهم قومهم إذ لا يفارق أحد قومه إلا لسوء معاشرة تنشأ بينه وبينهم.
وقد كانت الهجرة من أشهر أحوال المخالفين لقومهم في الدين ، فقد هاجر إبراهيمعليهالسلام (وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الصافات : ٩٩]. وهاجر لوطعليهالسلام: (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت : ٢٦] ، وهاجر موسى عليهالسلام بقومه ، وهاجر محمد صلىاللهعليهوسلم وهاجر المسلمون بإذنه إلى الحبشة ، ثم إلى المدينة يثرب ، ولما استقرّ المسلمون من أهل مكّة بالمدينة غلب عليهم وصف المهاجرين وأصبحت الهجرة صفة مدح في الدين ، ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم في مقام التفضيل : «لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار» وقال للأعرابي : «ويحك إنّ شأنها شديد ـ وقال ـ لا هجرة بعد الفتح».