وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ (زَحْفاً) في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرب وجعله وصفا لتلاحم الجيشين عند القتال ، لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيبا ، ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهم الكثير العدد ، وجعله وصفا لذات الجيش.
وعلى كلا التقديرين فهو : إما حال من ضمير (لَقِيتُمُ) وإما من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فرارا إذا التحم الجيشان ، سواء جعلت زحفا حالا من ضمير (لَقِيتُمُ) أو من (الَّذِينَ كَفَرُوا) ، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر.
وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالا من ضمير لقيتم كان نهيا عن الفرار إذا كان المسلمون جيشا كثيرا ، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي ، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ ـ إلى ـ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال : ٦٥ ، ٦٦] ، وإن جعل حالا من (الَّذِينَ كَفَرُوا) كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا ، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب ، ويؤول إلى معنى لا تولوهم الأدبار في كل حال.
وهذه الآية عند جمهور أهل العلم نزلت بعد انقضاء وقعة بدر ، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته كما تقدم آنفا ، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر ، وما هذه الآية إلّا جزء من هذه السورة فحكم هذه الآية شرع شرعه الله على المسلمين بسبب تلك الغزوة لتوقع حدوث غزوات يكون جيش المسلمين فيها قليلا كما كان يوم بدر ، فنهاهم الله عن التقهقر إذا لا قوا العدو.
فأما يوم بدر فلم يكن حكم مشروع في هذا الشأن ، فإن المسلمين وقعوا في الحرب بغتة وتولى الله نصرهم.
وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم ، وروي هذا عن ابن عباس ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وجمهور أهل العلم ، لكنهم جعلوا عموم هذه الآية مخصوصا بآية (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً ـ إلى قوله ـ بِإِذْنِ اللهِ) [الأنفال : ٦٥ ، ٦٦].
والوجه في الاستدلال أن هذه الآية اشتملت على صيغ عموم في قوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ