يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ـ إلى قوله ـ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) وهي من جانب آخر مطلقة في حالة اللقاء من قوله : (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) فتكون آيات (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ـ إلى قوله ـ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) [الأنفال : ٦٥ ، ٦٦] مخصصة لعموم هاته الآية بمقدار العدد ومقيدة لإطلاقها اللقاء بقيد حالة ذلك العدد ، وروي عن أبي سعيد الخدري ، وعطاء ، والحسن ، ونافع ، وقتادة ، والضحاك : أن هذه الآية نزلت قبل وقعة بدر ، وقالوا إن حكمها نسخ بآية الضعفاء آية (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ) [الأنفال : ٦٥] الآية وبهذا قال أبو حنيفة ، ومآل القولين واحد بالنسبة لما بعد يوم بدر ، ولذلك لم يختلفوا في فقه هذه الآية إلّا ما روي عن عطاء كما سيأتي ، والصحيح هو الأول كما يقتضيه سياق انتظام آي السورة ، ولو صح قول أصحاب الرأي الثاني للزم أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل الشروع في القتال يوم بدر ثم نزلت سورة الأنفال فألحقت الآية بها ، وهذا ما لم يقله أحد من أصحاب الأثر.
وذهب فريق ثالث : إلى أن قوله تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) الآية محكم عام في الأزمان ، لا يخصص بيوم بدر ولا بغيره ، ولا يخص بعدد دون عدد ، ونسب ابن الفرس ، عن النحاس ، إلى عطاء بن أبي رباح ، وقال ابن الفرس قال أبو بكر بن العربي هو الصحيح لأنه ظاهر القرآن والحديث ، ولم يذكر أين قال ابن العربي ذلك ، وأنا لم أقف عليه.
ولم يستقر من عمل جيوش المسلمين ، في غزواتهم مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ومع الأمراء الصالحين في زمن الخلفاء الراشدين ، ما ينضبط به مدى الإذن أو المنع من الفرار ، وقد انكشف المسلمون يوم أحد فعنفهم الله تعالى بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) [آل عمران : ١٥٥] وما عفا عنهم إلّا بعد أن استحقوا الإثم ، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله : (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) إلى قوله ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) في سورة براءة [٢٥ ـ ٢٧] وذكر التوبة يقتضي سبق الإثم.
ومعنى (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) لا توجهوا إليهم أدباركم ، يقال : ولّى وجهه فلانا إذا أقبل عليه بوجهه ومنه قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)[البقرة : ١٤٤] فيعدى فعل ولّى إلى مفعولين بسبب التضعيف ، (ومجرده ولي) إذا جعل شيئا واليا أي قريبا فيكون ولّى المضاعف مثل قرب المضاعف ، فهذا نظم هذا التركيب.