مُعْرِضُونَ (٢٣))
لما أراهم الله آيات لطفه وعنايته بهم ، ورأوا فوائد امتثال أمر الرسول صلىاللهعليهوسلم بالخروج إلى بدر ، وقد كانوا كارهين الخروج ، أعقب ذلك بأن أمرهم بطاعة الله ورسوله شكرا على نعمة النصر ، واعتبارا بأن ما يأمرهم به خير عواقبه ، وحذرهم من مخالفة أمر الله ورسولصلىاللهعليهوسلم.
وفي هذا رجوع إلى الأمر بالطاعة الذي افتتحت به السورة في قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] رجوع الخطيب إلى مقدمة كلامه ودليله ليأخذها بعد الاستدلال في صورة نتيجة أسفر عنها احتجاجه ، لأن مطلوب القياس هو عين النتيجة ، فإنه لما ابتدأ فأمرهم بطاعة الله ورسوله بقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] في سياق ترجيح ما أمرهم به الرسول عليه الصلاة والسلام على ما تهواه أنفسهم ، وضرب لهم مثلا لذلك بحادثة كراهتهم الخروج إلى بدر في بدء الأمر ومجادلتهم للرغبة في عدمه ، ثم حادثة اختيارهم لقاء العير دون لقاء النفير خشية الهزيمة ، وما نجم عن طاعتهم الرسول عليه الصلاة والسلام ومخالفتهم هواهم ذلك من النصر العظيم والغنم الوفير لهم مع نزارة الرزء ، ومن التأييد المبين للرسول صلىاللهعليهوسلم ، والتأسيس لإقرار دينه (وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ) [الأنفال : ٧ ، ٨] وكيف أمدهم الله بالنصر العجيب لمّا أطاعوه وانخلعوا عن هواهم ، وكيف هزم المشركين ؛ لأنهم شاقوا الله ورسوله ، والمشاقة ضد الطاعة تعريضا للمسلمين بوجوب التبرؤ مما فيه شائبة عصيان الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ثم أمرهم بأمر شديد على النفوس ألا وهو (إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥] وأظهر لهم ما كان من عجيب النصر لما ثبتوا كما أمرهم الله (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) [الأنفال : ١٧] ، وضمن لهم النصر إن هم أطاعوا الله ورسوله وطلبوا من الله النصر ، أعقب ذلك بإعادة أمرهم بأن يطيعوا الله ورسوله ولا يتولوا عنه ، فذلكة للمقصود من الموعظة الواقعة بطولها عقب قوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] وذلك كله يقتضي فصل الجملة عما قبلها ، ولذلك افتتحت ب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).
وافتتاح الخطاب بالنداء للاهتمام بما سيلقى إلى المخاطبين قصدا لإحضار الذهن لوعي ما سيقال لهم ، فنزّل الحاضر منزلة البعيد ، فطلب حضوره بحرف النداء الموضوع لطلب الإقبال.