لأن المعيار في البيانات الشرعية على الظهور العرفي المستند للوضع والقرائن الخاصة والعامة ، ومنها الإطلاق المقامي ، أما في القضايا العقلية فالمعيار على ما يعلم من العقل ، ولا دخل للظهور العرفي.
ومن جميع ما سبق يتضح أن الملازمة في الحقيقة ليست بين حكم العقل بحسن الشيء أو قبحه وحكم الشرع على طبقه ، بل بين حكم العقل بحسن الحكم نفسه المسبب عن حسن متعلقه أو قبحه ـ مع عدم المزاحم والموانع ـ ونفس الحكم.
بل يكفي حسن الحكم لمصلحة فيه ، لا في المتعلق ، كمصلحة الامتحان أو التأديب والعقاب ، حيث يمكن ترتبهما على نفس الحكم دون المتعلق ، كما لا يبعد في مثل تكليف إبراهيم عليه السّلام بذبح ولده ، وفي تحريم بعض الامور على اليهود ، كما قد يظهر من قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ)(١) وغيره.
وعلى ذلك جرى في الفصول بعد التعرض لجملة ما ذكرنا وغيره مما لا مجال لإطالة الكلام فيه.
وإليه يرجع ما ذكرناه في الوجه الثاني للاستدلال على التحسين والتقبيح العقليين من أن ما صدر من الشارع الأقدس هو النظام التشريعي الأكمل الذي هو مقتضى الداعي العقلي الذي ينحصر في حقه.
ومن الظاهر أن الملازمة المذكورة لا تنفع في استنباط الأحكام الشرعية ، لعدم إحاطة العقل بالملزوم بجميع خصوصياته ، ليتسنى تشخيص موارده ، بل هو مما ينفرد به الشارع الأقدس ، وإن أمكن أن يعلم ببعض ذلك من قبله.
ولعله عليه يحمل ما تضمن أن دين الله لا يصاب بالعقول.
__________________
(١) سورة الأنعام : ١٤٦.