والليل المعسعس هنا مثال لزمن الفترة الرسالية بين السيد المسيح وسيدنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ كان يقبل أحيانا بظلمات الجهل العارمة ، ويدبر أخرى تخفيفا عنها ، ولقد كان طلاب الحقيقة في هذه الفترة العس الداعس ، كانوا حيارى ، بين من لا يجد إلا الظلام ، ومن يجد خليطا منه ومن النور عن كتابات الوحي الخليطة من الغث والسمين.
والصبح إذا تنفس بالنور والحياة والحركة إذ أخذ يفجر ظلم الليل العس ، والتنفس هنا خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل ، فكأنه متنفس من كرب ، أو متروح من همّ ، ومن ذلك قولهم : قد نفس عن فلان الخناق أي انجلى كربه وانفسح قلبه .. أو بمعنى انشق وانصدع من قولهم : تنفس الإناء إذا انشق وتنفست القوس إذا انصعدت.
وهذا مثال للقرآن إذ أخذ يفجر منذ بزوغه ظلم الأوهام التي خنقت البشرية طوال الفترة الرسالية ، ففي الصبح الذي بزغ نور الوحي القرآني على القلب المحمدي ، لمست البشرية وتنفست بحياة جديدة بعد موت عارم خيم بظلمه على بني الإنسان إذ كانوا في ليل داج عسعس ، ولم تكن الأنوار في الأرض إلا خنسا كنسا : فأنوار وحي الأرض كانت غاربة ، وأنوار وحي السماء كانت خليطة بشيء كثير من وحي الأرض ، حتى تنفس صبح الرسالة القرآنية ، مهيمنة على وحي الرسالات كلها.
(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ. ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) :
ليس القرآن قول إنسان ومنه ، ولا قول ملك ومنه ، وإنما هو قول رسول إلهي ، يحمل هذه الرحمة الواسعة الربانية دون ابتغاء جزاء أو شكور ، وهذا هو معنى كرم الرسول ، فكما الوحي كرم من الله ، كذلك من يحمل الوحي كريم يبلغه مهما بلغت به الصعوبات في هذه السبيل دون قهر ولا أجر ولا أنفة ولا كبر ، وإنما حياته هي الرسالة الكريمة بدء ختم.