فكلنا نعلم أن جبريل لم يصاحب غير الرسول لكي تستدل بصحبته وعشرته للمخاطبين أنه غير مجنون ، ولم ينسب إليه الشعر ولا الكهانة ولا الشيطنة ولا الجنون لكي تنفى عنه ، فالمشركون لم يكونوا ليعترفوا بوجوده حتى ينسبوه إليها ، وأهل الكتاب كانوا يحترمونه فكيف يتهمونه بالشيطنة والجنون! في حين أنهم نسبوا إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم كل هذه : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ) (٣٤ : ٨) (أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) (٥٢ : ٢٩) (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) .. (٧ : ١٨٤)
(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) (٥١ : ٥٢).
ومن جهة أخرى نعلم أن جبريل ليس هو موضوع الرسالة والوحي لكي تحاول الآيات إثبات رسالته وأنه لا يسحر ولا يكذب ، وإنما دوره دور الوسيط في الوحي المفصّل ، ولا يثبت له كيان إلا بعد ثبوت الرسالة المحمدية وسواها ،
__________________
ـ ثم لا ينافيهما أن الآيات خاصة بالرسول تنزيلا ، وكما تدل القرائن فإن أمثال هذه الروايات تحمل تفسير التأويل : أن جبريل (ع) يحمل وحي القرآن كما يحمله الرسول محمد (ص) ، فتنزيل الآيات بشأن الرسول وتأويلها بشأن جبريل ، وكل من يحمل وحي القرآن من فروع الرسالة المحمدية من أئمة أهل بيته الكرام.
ثم رواية ثالثة تفسر (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) بالرسول (ص) كما في الدر المنثور (٦ : ٣٢١) ، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) لجبريل ليلة الإسراء : أكشف عن النار ، فكشف عنها ، فنظر إليها ، فذلك قوله مطاع ثم أمين على الوحي وما صاحبكم بمجنون ، محمد (ص).
في حين نرى ابن عساكر يخرج عن معاوية بن قرة أن الرسول (ص) قال لجبريل : ما أحسن ما أثنى عليك ربي (ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ. مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) فما كانت قوتك وما كانت أمانتك؟ ..
فليس من الواجب طرح الروايات التي تفسر الآيات بجبريل ، وإنما نقول إنها من تفسير الجري والتأويل ، نزلت في رسول الله وجرت في كل من يحمل وحي القرآن وأولهم جبريل ـ تأمل.