وإلى أعلى الآفاق العقلية والمعرفية من الملائكة والمرسلين ، فقد عرج الرسول الكريم إلى معراج تلكم الآفاق ، خارقا حجب الظلمات والنور ، فما زاغ بصره وبصيرته ، وما نقص في معرفة ربه ، (وَما طَغى) : ان يراه ببصر العيان ، أم يعرفه بالبصيرة حق المعرفة ، وإنما ازدلف إليه وعرفه كما يمكن ، خارقا كافة الحجب إلا حجاب ذات الألوهية ، المستحيل خرقه.
إن الرؤية هذه هي رؤية الفؤاد بنور اليقين (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى)(١) فللقلوب أبصار كما للقوالب : (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ. أَبْصارُها خاشِعَةٌ) (٧٩ : ٧ ـ ٨) : أبصار القلوب الكليلة أو البصيرة النيرة وكما في العلوي : «وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق حجب النور فتصل إلى معدن العظمة» وعند ما يسأل : هل رأيت ربك؟ يجيب : كيف أعبد ربا لم أره ، لم تره العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان».
وعن الرسول الأقدس صلّى الله عليه وآله وسلّم : «لم أره بعيني ورأيته بفؤادي مرتين ثم تلا (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) وهذا جوابا عمن سأله هل رأيت ربك» (٢) وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم :
__________________
(١) في البحار ج ٦ ص ٣٨٠ ، عن ابن عباس قال : قال النبي (ص) فيما احتج على اليهود : .. حتى انتهيت إلى السماء السابعة فجاوزت سدرة المنتهى عندها جنة المأوى حتى تعلقت بساق العرش فنوديت من ساق العرش : إني أنا الله لا إله إلا أنا السّلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الرؤوف الرحيم ، فرأيته بقلبي وما رأيته بعيني.
وفي ٣٩٨ عن انس قال : قال رسول الله (ص) لما عرج بي إلى السماء دنوت من ربي حتى كان بيني وبينه قاب قوسين أو أدنى.
وفي ٣٩٩ عن حمران قال : سألت أبا جعفر (ع) عن قول الله عز وجل في كتابه (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) فقال : أدنى الله محمدا منه فلم يكن بينه وبينه إلا قعص لؤلؤ فيه فراش يتلألأ.
أقول : اللؤلؤ هذا المتلألئ هو نور الذات الأزلية التي لا تظهر إلا له سبحانه لا سواه.
(٢) في الدر المنثور ٦ : ١٢٤ ، أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي عن بعض أصحاب النبي (ص) قال : قالوا يا رسول الله (ص) ..