نزول الآية وهو قتل اسامة بن زيد يهوديّا فدكيّا جمع عياله وماله وساق غنمه وانحاز الى ناحية جبل وكان قد أسلم فقال بعد ما لقى عسكر اسامة : السّلام عليكم لا اله الّا الله ؛ محمّد رسول الله ، فبدر اليه اسامة فقتله فلمّا رجع قال له رسول الله (ص): أفلا شققت الغطاء عن قبله ، لا ما قال بلسانه قبلت ، ولا ما كان في نفسه علمت ، ونزلت الآية فحلف اسامة بعد ذلك ان لا يقتل أحدا قال لا اله الّا الله ، وبهذا العذر تخلّف عن علىّ (ع) وقيل : نزلت في رجل آخر كان في سريّة لقى رجلا كان بينهما إحنة (١) فحيّاه الرّجل بتحيّة الإسلام فقتله وجاء الى رسول الله (ص) وقال : استغفر لي ، فقال رسول الله (ص) لا غفر الله لك ، وعلى اىّ تقدير صار المقام مقام ان يقال : هل القعود أفضل من الجهاد ان كان في الجهاد هذه الآفات؟ ـ فقال تعالى : لا يستوي القاعدون عن الحرب (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الّذين قبلوا الدّعوة الظّاهرة سواء كانوا قبلوا الدّعوة الباطنة وبايعوا البيعة الخاصّة أم كانوا واقفين على الدّعوة الظّاهرة وعلى قبول البيعة العامّة الاسلاميّة ، والظّرف مستقرّ حال عن القاعدون أو عن المستتر فيه (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) قرئ برفع غير صفة للقاعدون لانّ الغير وان كان لا يتعرّف بالاضافة لغاية إبهامه لكنّه إذا أضيف الى معرّف يقع صفة للمعرفة إذا كانت المعرفة معرفة باللّام الجنسيّة أو موصولة لابهامهما مثل غير ، أو كان غير واقعا بين النّقيضين ، وقرئ بالنّصب حالا عن القاعدون أو عن المستتر فيه أو منصوبا على الاستثناء ، وقرئ بالجرّ صفة للمؤمنين ، قيل : نزلت الآية في جمع تخلّفوا عن غزوة تبوك ولم يكن فيها غير اولى الضّرر فجاء ابن امّ مكتوم وكان أعمى وهو يبكى فقال : يا رسول الله (ص) كيف بمن لا يستطيع الجهاد فغشيه الوحي ثانيا ثمّ سرّى عنه فقال اقرء غير اولى الضّرر فألحقها والّذى نفسي بيده لكأنّى انظر الى ملحقها عند صدع في الكتف (وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ) ببذلها على المجاهدين وصرفها في سبيل الخيرات وإنفاقها على أنفسهم في الجهاد وصرف قواهم الّتى هي أموالهم الحقيقيّة وكذلك نسبة أفعالهم واوصافهم الى أنفسهم (وَأَنْفُسِهِمْ) باتعابها في الجهاد واجهادها في الخيرات والرّياضات وهذا تهييج للمجاهد في جهاده وترغيب للقاعد عن قعوده (فَضَّلَ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما الفرق بينهما؟ ـ فقال : فضّل الله (الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ) أظهر المجاهدين والقاعدين اشعارا بعلّة الحكم وتكرارا لوصفها الدّاعى الى التّفضيل تهييجا وترغيبا لهما ، وأظهر الأموال والأنفس لانّه تعالى أراد أن يعلّق حكم التّفضيل بدرجة واحدة على حالة بقاء نسبة الأموال والأنفس إليهم حتّى يظهر الفرق بين هؤلاء المجاهدين والمجاهدين الآتين ، لانّه ذكر هناك تفضيلهم على القاعدين بدرجات وما أمكن الاشارة الى بقاء نسبة الأموال والأنفس الّا بالتّصريح بهما واضافتهما إليهم ، وقدّم الأموال على الأنفس لانّ المجاهد يقدّم الأموال في الجهاد دون نفسه ولانّه ما لم تكن نسبة الأموال اوّلا لم تكن نسبة الأنفس ، وقدّم القاعدين اوّلا واخّرهم ثانيا لانّ السّؤال كأنّه كان عن حال القاعدين وانّهم هل يبلغون درجة المجاهدين أم لا؟ بخلاف المجاهدين فانّ فضلهم كان معلوما.
واعلم انّه لا فرق بين القاعد والمجاهد بالأموال والأنفس الّا بدرجة لانّهما في نسبة الأموال والأنفس إليهما متساويان لكنّ القاعد لم يترك الرّاحة بالأموال والأنفس والمجاهد ارتفع عنه درجة من حيث انّه ترك الرّاحة بالأموال والأنفس وهما بخلاف المجاهدين في الآية الآتية ولذلك قيّد هاهنا التّفضيل بقوله تعالى (دَرَجَةً) وأطلقه في الآية الآتية (وَكُلًّا) منهما (وَعَدَ اللهُ) المثوبة (الْحُسْنى) إذا لم يكن القعود عن عذر ،
__________________
(١) ـ الإحنة : بالكسر الحقد.