ثم انظر قوله تعالى " وتاب الله عليكم " فهو يكشف لك أنه وقع منهم بالتأخر من المناجاة والبخل بالصدقات ما يقتضي الخيانات ويحتاج إلى أن يتوبوا حتى يتوب الله عليهم ، وهذا واضح من إيثارهم الدنيا على الله والرسول المحسن إليهم ، ثم ذكر الله تعالى إنه تاب عليهم شفقتا بهم لا لأنهم تابوا لأن التوبة له طرفان طرف من الله تعالى أن يفتح باب قبول التوبة وطرف من العبد بأن يتوب ألا ترى قوله تعالى أنه قال في موضع آخر " ثم تاب عليهم ليتوبوا ". وفي آية أخرى قوله تعالى " ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين" (١).
فانظر في قوله تعالى لنبيه أنهم أقسياء القلوب أن لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا ، ألا تعلم أن مضمونه يقتضي عقلا أن الباعث لجمعهم واجتماعهم لم يكن إلا لين جناح النبي صلى الله عليه وآله ولطفه معهم ، لا لا طاعة حكم النبوة وإطاعة حكم رسالته وقوله تعالى " لانفضوا من حولك " يوضح لك هذا المعنى أنه لو كان فظا وغليظ القلب لم يصبروا على نبوته " ص " ولم يقيموا على حكم رسالته ، وقوله تعالى " فاعف عنهم " يكشف لك أنهم كانوا على صفات مهلكة وجنايات مفضحة التي تحتاج إلى العفو عنهم ، وقوله تعالى " واستغفر لهم " يؤكد ذلك إلى نهاية الغاية.
وقوله تعالى " وشاورهم في الأمر " يدل على ضعف دينهم وأنهم كانوا مؤلفة يحتاجون إلى تأليف قلوبهم ، وقوله تعالى " فإذا عزمت " حيث جعل المدار على عزمه ولم يقل وإذا قالوا لك أو إذا عزموا كلها يدل بوضوح أن حالهم كان حال المؤلفة ، وكل واحد منها يشهد بضعف إيمانهم وسخافة رأيهم ، فكيف
__________________
(١) آل عمران : ١٥٩.