فإذ ذلك كذلك فالاستطاعة كما قلنا شيئان ، أحدهما قبل الفعل ، وهو سلامة الجوارح ، وارتفاع الموانع.
والثاني : لا يكون إلا مع الفعل ، وهو القوة الواردة من الله عزوجل بالعون أو الخذلان وهذا خلق الله تعالى للفعل فيما ظهر منه ، وسمي من أجل ذلك فاعلا ، لما ظهر منه إذ لا سبيل إلى وجود معنى غير هذا البتة ، فهذا هو حقيقة الكلام في الاستطاعة ، بما جاءت به نصوص القرآن والسنن والإجماع ، وضرورة الحس ، وبديهة العقل. فعلى هذا التقسيم بيّنا الكلام في هذا الباب ، فإذا نفينا وجود الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بذلك الاستطاعة التي بها يقع الفعل ويوجد واجبا ولا بد ، وهي خلق الله تعالى للفعل في فاعله ، فإذا أثبتنا الاستطاعة قبل الفعل فإنما نعني بها صحة الجوارح ، وارتفاع الموانع التي بها يكون الفعل ممكنا متوهما ، لا واجبا ولا ممتنعا ، وبهذا يكون المرء مخاطبا مكلفا ، مأمورا ، منهيا ، وبعدمها يسقط عنه الخطاب ، والتكليف ، ويصير الفعل منه ممتنعا ، ويكون عاجزا عن الفعل.
قال أبو محمد رضي الله عنه : فإذ قد تبين ما الاستطاعة فنقول بعون الله عزوجل : ما اعترضت به المعتزلة الموجبة للاستطاعة جملة قبل الفعل ولا بد.
فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنهم أيضا أخبرونا عن الكافر المأمور بالإيمان : أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع؟
فجوابنا وبالله تعالى نتأيد أننا قد بينا آنفا أن صحة الجوارح وارتفاع الموانع استطاعة ، وحامل هذه الصفة مستطيع بظاهر حاله من هذا الوجه ، وغير مستطيع لما لم يفعل الله تعالى فيه ما به يكون تمام استطاعة ووجود الفعل ، فهو مستطيع من وجه غير مستطيع من وجه آخر ، وهذا مع أنه نص القرآن كما أوردنا فهو أيضا مشاهد كالبنّاء المجيد ، فهو مستطيع بظاهر حاله ومعرفته بالبناء ، غير مستطيع بعدم الآلات التي لا يوجد البناء إلا بها.
وهكذا في جميع الأعمال ، وأيضا فقد يكون المرء عاصيا لله تعالى في وجه ، مطيعا له في وجه آخر ، مؤمنا بالله كافرا بالطاغوت.
فإن قالوا : قد نسبتم إلى الله تعالى تكليف ما لا يستطاع.
قلنا : هذا باطل بل ما نسبنا إليه تعالى إلا ما أخبر به عن نفسه أنه لا يكلف أحدا إلا ما يستطيع بسلامة جوارحه ، وقد يكلفه ما لا يستطيع في علم الله تعالى ، لأن الاستطاعة التي يكون بها الفعل ليست فيه بعد ، فلا يجوز أن يطلق على الله تعالى أحد القسمين دون الآخر.