وأما قولهم : هذا كتكليف المعقد الجري ، والأعمى النظر ، وإدراك الألوان ، والارتفاع إلى السماء. فإن هذا باطل ، فإن هؤلاء ليس فيهم شيء من قسمي الاستطاعة ، فلا استطاعة لهم أصلا ، وأما الصحيح الجوارح ففيه أحد قسمي الاستطاعة وهو سلامة الجوارح ، فلو لا أن الله عزوجل أمننا بقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج : ٧٨] لكان غير منكر أن يكلف الله عزوجل الأعمى إدراك الألوان ، والمقعد الجري والطلوع إلى السماء ، ثم يعذبهم عند عدم ذلك منهم ، ولله تعالى أن يعذب من شاء دون أن يكلفه وأن ينعم من شاء دون أن يكلفه كما رزق من يشاء العقل وحرمه الجماد والحجارة وسائر الحيوان ، وجعل عيسى ابن مريم عليهماالسلام نبيا في المهد عند ولادته ، وشدّ على قلب فرعون فلم يؤمن ، قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [سورة الأنبياء : ٢٣].
وليس في بداية العقل حسن ولا قبيح بعينه البتة.
وقالت المعتزلة : متى أعطي الإنسان الاستطاعة قبل وجود الفعل فإن كان قبل وجود الفعل قالوا : فهذا قولنا ، وإن كان حين وجود الفعل ، فما حاجتنا إليه؟
فجوابنا وبالله تعالى التوفيق : أن الاستطاعة قسمان كما قلنا.
فأحدهما : قبل الفعل ، ومع الفعل ، وهو صحة الجوارح وارتفاع الموانع.
والآخر : مع الفعل ، وهو العون والخذلان اللذان بهما يقع الفعل ، ولو لا هما لم يقع والآخر : مع الفعل ، وهو العون والخذلان اللذان بهما يعق الفعل ، ولو لا هما لم يقع كما قال الله تعالى ، ولو كانت الاستطاعة لا تكون إلا قبل الفعل ولا بد ، ولا تكون مع الفعل أصلا كما زعم أبو الهذيل (١) لكان الفاعل إذا فعل عديم الاستطاعة ، وفاعلا فعلا لا استطاعة له على فعله حين فعله ، وإذ لا استطاعة له عليه فهو عاجز عنه ، فهو فاعل عاجز عما يفعل معا ، وهذا تناقض ومحال بين.
قال أبو محمد : ولهم إلزامات سخيفة هي لازمة لهم ، كما تلزم غيرهم سواء سواء ، منها قولهم : متى أحرقت النار العود أفي حال سلامته وهو محرق؟ فإن كانت أحرقته في حالة سلامته فهو إذن محرق غير محرق. وإن كانت أحرقته وهو محروق فما الذي أحرقت فيه؟ وسؤالهم : متى كسر المرء العود؟ أكسره وهو صحيح فهو إذن مكسور صحيح؟ أو كسره وهو مكسور؟ فما الذي أحدث فيه؟ وكسؤالهم : متى أعتق المرء عبده في حال رقه فهو حر عبد معا؟ أو في حال عتقه؟ فأي معنى لعتقه إياه؟
__________________
(١) أبو الهذيل العلّاف ، تقدّم التعريف به.