بأزمانهم وأجيالهم ، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ، ومحدودة ، لأنها شواهد على نبوات محدودة ، فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة ، والبعض الآخر تنتقل اليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر ، فتقوم عليه الحجة ايضا.
أما الشريعة الخالدة ، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا ، لأن المعجزة اذا كانت محدودة قصيرة الامد لم يشاهدها البعيد ، وقد تنقطع أخبارها المتواترة ، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة ، فاذا كلفه الله بالايمان بها كان من التكليف بالممتنع ، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى ، فلابد للنبوة الدائمة المستمرة من معجزات دائمه. وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة ، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة على السلف.
ثم ان القرآن يختص بخاصة اخرى ، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الانبياء السابقون ، وهذه الخاصة هي تكلفة بهداية البشر وسوقهم الى غاية كمالهم. فان القرآن هو المرشد الذي ارشد العرب الجفاة الطغاة ، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الاصنام ، والمشتغلين عن تحصيل المعارف ، وتهذيب النفوس ـ بالحروب الداخلية ، والمفاخرات الجاهلية ، فتكونت منهم ـ في مدة يسيرة ـ أمة ذات خطر في معارفها ، وذات عظمة في تاريخها ، وذات سمو في عادتها. ومن نظر في تاريخ الاسلام وسبر تراجم اصحاب النبي صلىاللهعليهوآله المستشهدين بين يديه ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته ، وكبير أثره ، فانه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية الى أعلى مراتب العلم والكمال ، وجعلهم يتفانون في سبيل الدين واحياء الشريعة ، ولا يعبأون بما تركوا من مال وولد وأزواج.