يخلصهم مما هم فيه من أنواع العذاب (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) والقائلون بهذه المقالة جمهور النصارى يقولون : ثلاثة أقانيم جوهر واحد : أب وابن وروح القدس إله واحد (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) أي ليس إله إلا إلها واحدا وإنما دخلت من للتوكيد (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) أي وان لم يرجعوا ويتوبوا عما يقولون من القول بالتثليث أقسم (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وإنما خصّ منهم الذين يستمرون على كفرهم لأنه علم أن بعضهم يؤمن ، وفي هذا تحذير من الجزاء (أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ) قال الفراء : هذا أمر في لفظ الإستفهام ، وقد يرد الأمر بلفظ الإستفهام كقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، وإنما دخلت إلى لأن معنى التوبة الرجوع إلى طاعة الله (وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) الاستغفار : طلب المغفرة بالدعاء (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر الذنوب ويسترها رحمة منه لعباده.
٧٥ ـ ٧٧ ـ لمّا قدّم سبحانه ذكر مقالات النصارى عقّبه بالرد عليهم ، والحجاج لهم فقال : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) أي ليس هو بإله (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) أي كما أن الرسل الذين مضوا قبله ليسوا بآلهة وإن أتوا بالمعجزات الباهرات ، فكذلك المسيح (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) لأنها تصدق بآيات ربها ، ومنزلة ولدها ، وتصدقه فيما أخبرها به بدلالة قوله : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) (كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ) إنه احتجاج على النصارى بأن من ولده النساء ، ويأكل الطعام ، لا يكون إلها للعباد ، لأن سبيله سبيلهم في الحاجة إلى الصانع المدبر (انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ) أمر سبحانه النبي (ص) وأمته بأن يفكروا فيما بيّن تعالى من الآيات : أي الدلالات على بطلان ما اعتقدوه من ربوبية المسيح ، ثم أمر بأن ينظر (ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) أي كيف يصرفون عن الحق الذي يؤدي إليه تدبر الآيات؟ فالنظر الأول إنما هو إلى فعله تعالى الجميل في نصب الآيات ، وإزاحة العلل ، والنظر الثاني إلى أفعالهم القبيحة ، وتركهم التدبر للآيات ، ثم زاد تعالى في الإحتجاج عليهم فقال : (قُلْ) يا محمد (أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) أي أتوجهون عبادتكم إلى من لا يقدر لكم على النفع والضر؟ لأن القادر عليهما هو الله والمستحق للعبادة إنما هو القادر على أصول النعم والنفع والضر والخلق والإحياء والرزق (وَاللهُ هُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم (الْعَلِيمُ) بضمائركم (قُلْ) يا محمد للنصارى فإنهم لمخاطبون هنا (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ) أي لا تتجاوزوا الحق إلى الغلو فيفوتكم الحق (وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ) والآية خطاب للذين كانوا في عصر النبي (ص) نهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم ، وأن يقلدوهم فيما هووا ، والأهواء ههنا : المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة ، لأن الإنسان قد يستثقل النظر لما فيه من المشقة ، ويميل طبعه إلى بعض المذاهب فيعتقده وهو ضلال فيهلك به (وَأَضَلُّوا كَثِيراً) يعني به هؤلاء الذين ضلوا عن الحق وأضلوا كثيرا من الخلق أيضا ، ونسب الإضلال إليهم من حيث كان بدعائهم وإغوائهم (وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) ومعنى سواء السبيل : مستقيم الطريق ، وقيل له : سواء لأنه يستقيم بصاحبه إلى الجنة ، والخلود في النعيم.
٧٨ ـ ٨٠ ـ ثم أخبر تعالى عما جرى على أسلافهم فقال : (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) قيل في معناه أقوال (أحدها) أن معناه : لعنوا على لسان داود فصاروا قردة ، وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير ، وإنما خصّ عيسى وداود لأنهما أنبه الأنبياء المبعوثين من بعد موسى (وثانيها) ما قاله ابن عباس : أنه يريد في الزبور وفي الإنجيل ، ومعنى هذا : ان الله تعالى لعن في الزبور من يكفر