(وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) معناه : انه إذا تكلّم كان أبين منّي ، وان بطش كان أشدّ منّي ، وان دعا كان أكثر منّي (قالَ) داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) معناه : ان كان الأمر على ما تدّعيه لقد ظلمك بسؤاله إياك بضم نعجتك (إِلى نِعاجِهِ) فأضاف المصدر إلى المفعول به (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) أي الشركاء المخالطين جمع الخليط (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ثم استثنى من جملة الخلطاء الذين يبغي بعضهم على بعض الذين آمنوا فقال (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) أي فإنهم لا يظلم بعضهم بعضا (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي وقليل هم (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) أي وعلم داود انا اختبرناه وابتليناه (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) أي سأل الله سبحانه المغفرة والستر عليه (وَخَرَّ راكِعاً) أي صلّى لله تعالى (وَأَنابَ) إليه ، قال الحسن : إنما قال : (وَخَرَّ راكِعاً) لأنه لا يصير ساجدا حتى يركع (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) أي قربى وكرامة (وَحُسْنَ مَآبٍ) في الجنة. واستغفار داود عليهالسلام حصل منه على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ، والخضوع له ، والتذلل بالعبادة والسجود كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليهالسلام بقوله : (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) ، وأما قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) فالمعنى : انا قبلناه منه وأثبناه عليه ، فأخرجه على لفظ الجزاء مثل قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) ، وقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) ؛ فلما كان المقصود من الاستغفار والتوبة القبول قيل في جوابه : غفرنا ، وهذا قول من ينزه الأنبياء عن جميع الذنوب من الامامية وغيرهم.
٢٦ ـ ٢٩ ـ ثم ذكر سبحانه اتمام نعمته على داود عليهالسلام (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي صيّرناك خليفة تدبر أمور العباد من قبلنا بأمرنا. وقيل معناه : جعلناك خلف من مضى من الأنبياء في الدعاء إلى توحيد الله تعالى وعدله ، وبيان شرائعه ، عن أبي مسلم (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) أي افصل أمورهم بالحق ، وضع كل شيء موضعه (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي ما يميل طبعك إليه ، ويدعو هواك إليه إذا كان مخالفا للحق (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) معناه : انك إذا اتبعت الهوى عدل الهوى بك عن سبيل الحق الذي هو سبيل الله (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي يعدلون عن العمل بما أمرهم الله (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) أي لهم عذاب شديد يوم الحساب بتركهم طاعات الله في الدنيا ، عن عكرمة والسدي ، ويكون على هذا يتعلق يوم الحساب بعذاب شديد ، وقيل معناه : لهم عذاب شديد باعراضهم عن ذكر يوم القيامة ، فيكون يوم متعلقا بنسوا (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) لا غرض فيه حكمي بل خلقناهما لغرض حكمي وهو ما في ذلك من اظهار الحكمة ، وتعريض أنواع الحيوان للمنافع الجليلة ، وتعريض العقلاء منهم للثواب العظيم وهذا ينافي قول أهل الجبر ان كل باطل وضلال فهو من فعل الله (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وجحدوا حكمته (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ظاهر المعنى. ثم قال سبحانه على وجه التوبيخ للكفار على وجه الاستفهام (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا) معناه : بل انجعل الذين صدقوا الله ورسله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والطاعات (كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) العاملين بالمعاصي (أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) أي بل أنجعل المتقين الذين اتقوا المعاصي لله خوفا من عقابه كالفجار الذين عملوا بالمعاصي وتركوا الطاعات؟ أي ان هذا لا يكون أبدا. ثم خاطب سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ) أي هذا القرآن كتاب منزل إليك مبارك ، أي كثير نفعه وخيره ، فإن في التدبر به يستبين الناس ما انعم الله عليهم (لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) أي ليتفكّر الناس ويتّعظوا بمواعظه (وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) أي أولو العقول فهم المخاطبون به.