وخصّ الملأ بالذكر وإن كان أيضا مرسلا إلى غيرهم لأنّ من عداهم تبع لهم (فَقالَ) موسى (إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) أرسلني إليكم (فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا) أي فلما أظهر المعجزات التي هي اليد البيضاء والعصا (إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ) استهزاء واستخفافا وجهلا منهم بما عليهم من ترك النظر فيها ، وبما لهم من النفع بحصول العلم بها (وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها) المراد بذلك ما ترادف عليهم من الطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والطمس ، وكانت كل آية من هذه الآيات أكبر من التي قبلها (وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لأنهم عذّبوا بهذه الآيات وكانت عذابا لهم ، ومعجزات لموسى (ع) ، فغلب عليهم الشقاء ولم يؤمنوا (وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ) يعنون بذلك يا أيّها العالم ، وكان الساحر عندهم عظيما ، يعظمونه ، ولم يكن صفة ذم ، عن الكلبي والجبائي ، وقيل : إنما قالوا استهزاء بموسى عليهالسلام ، عن الحسن ، وقيل معناه : يا أيها الذي غلبنا بسحره ، وأرادوا أنه غالب السحرة فغلبهم بسحره (ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ) أي بما زعمت انه عهد عندك ، وهو انه ضمن لنا أنّا إذا آمنّا بك ان يكشف العذاب عنّا (إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ) أي راجعون إلى الحق الذي تدعونا إليه متى كشف عنّا العذاب (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) أي يغدرون وينقضون العهد ، وفي هذا تسلية للنبي (ص) والمعنى : فاصبر يا محمد على أذى قومك فإنّ حالك معهم كحال موسى مع قومه ، فيؤول أمرك إلى الاستعلاء على قومك كما آل أمره إلى ذلك (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) معناه : انّه لما رأى أمر موسى يزيد على الأيام ظهورا واعتلاء خاف على مملكته فأظهر الخداع ، فخطب الناس بعد ما اجتمعوا (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) أتصرّف فيها كما أشاء أراد بذلك اظهار بسطته في الملك والمال (وَهذِهِ الْأَنْهارُ) مثل النيل وغيرها (تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي انّها كانت تجري تحت قصره وهو مشرف عليها (أَفَلا تُبْصِرُونَ) هذا الملك العظيم وقوّتي ، وضعف موسى (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) أي ضعيف حقير ، يعني به موسى (وَلا يَكادُ يُبِينُ) أي ولا يكاد يفصح بكلامه وحججه للعقدة التي في لسانه.
قال الحسن : كانت العقدة زالت عن لسانه حين أرسله الله كما قال مخبرا عن نفسه : وأحلل عقدة من لساني ثم قال : قد أوتيت سؤلك يا موسى ، وإنما عيّره بما كان في لسانه.
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) أي هلّا طرح عليه أسورة من ذهب ان كان صادقا في نبوّته. وكان إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار من ذهب ، وطوّقوه بطوق من ذهب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) متتابعين يعينونه على أمره الذي بعث له ، ويشهدون له بصدقه. وقيل : متعاضدين متناصرين كلّ واحد منهم يمالىء صاحبه (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) ومعناه : ان فرعون استخفّ عقول قومه (فَأَطاعُوهُ) فيما دعاهم إليه لأنه احتجّ عليهم بما ليس بدليل وهو قوله : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) إلى آخره ولو عقلوا لقالوا : ليس في ملك الإنسان دلالة على انه محقّ ، وليس يجب أن يأتي مع الرسل ملائكة لأنّ الذي يدل على صدق الرسل هو المعجز دون غيره (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي خارجين عن طاعة الله تعالى.
٥٥ ـ ٦٠ ـ ثم أخبر سبحانه عن انتقامه من فرعون وقومه فقال : (فَلَمَّا آسَفُونا) أي أغضبونا ، عن ابن عباس ومجاهد ، وغضب الله سبحانه على العصاة : إرادة عقوبتهم ، ورضاه عن المطيعين : إرادة ثوابهم الذي يستحقّونه على طاعتهم ، وقيل معناه : آسفوا رسلنا ، لأن الأسف بمعنى الحزن لا يجوز على الله سبحانه (انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) أي انتقمنا لأوليائنا منهم (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) ما نجا منهم أحد (فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً)