الوطر (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي موضع مقامهم يقيمون فيها ، ثم خوّفهم وهدّدهم سبحانه فقال (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ) يا محمد يعني مكّة (الَّتِي أَخْرَجَتْكَ) أي أخرجك أهلها والمعنى : كم من رجال هم أشد من أهل مكّة ولهذا قال (أَهْلَكْناهُمْ) فكنّى عن الرجال (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) يدفع عنهم اهلاكنا إياهم والمعنى : فمن الذي يؤمّن هؤلاء ان أفعل بهم مثل ذلك.
ثم قال سبحانه على وجه التهجين والتوبيخ للكفار والمنافقين (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) أي على يقين من دينه ، وعلى حجّة واضحة من اعتقاده في التوحيد والشرائع (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) زيّن له الشيطان المعاصي وأغواه (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي شهواتهم وما تدعوهم إليه طباعهم ، وهو وصف لمن زيّن له سوء عمله وهم المشركون وقيل : هم المنافقون عن ابن زيد ، وهو المروي عن أبي جعفر (ع). ثم وصف الجنات التي وعدها المؤمنين بقوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) تقدم تفسيره في سورة الرعد (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ) أي غير متغير لطول المقام كما تتغير مياه الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ) فهو غير حامض ولا قارص ، ولا يعتريه شيء من العوارض التي تصيب الألبان في الدنيا (وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) أي لذيذة يلتذّون بشربها ، ولا يتأذّون بها ولا بعاقبتها بخلاف خمر الدنيا التي لا تخلو من المزازة والسكر والصداع (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) أي خالص من الشمع والرغوة والقذى ، ومن جميع الأذى والعيوب التي تكون لعسل الدنيا (وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) أي مما يعرفون اسمها ومما لا يعرفون اسمها ، مبرّأة من كل مكروه يكون لثمرات الدنيا (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ) أي ولهم مع هذا مغفرة من ربّهم وهو انه يستر ذنوبهم ، وينسيهم سيّئاتهم حتى لا يتنغّص عليهم نعيم الجنة (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) أي من كان في هذه النعيم كمن هو خالد في النار (وَسُقُوا ماءً حَمِيماً) شديد الحرّ (فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ) إذا دخل أجوافهم ، وقيل : ان قوله : (كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ) معطوف على قوله : (كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) ، أي كمن زيّن له سوء عمله ومن هو خالد في النار ، فحذف الواو كما يقال : قصدني فلان شتمني ظلمني.
١٦ ـ ٢٠ ـ ثمّ بيّن سبحانه حال المنافقين فقال : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) أي ومن الكافرين الذين تقدم ذكرهم من يستمع إلى قراءتك ودعوتك وكلامك لأنّ المنافق كافر (حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يعني الذين آتاهم الله العلم والفهم من المؤمنين قال إبن عباس أنا ممن أوتوا العلم بالقرآن وعن الاصبغ بن نباتة عن علي (ع) قال : إنّا كنا عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا (ما ذا قالَ آنِفاً) وقولهم : (ما ذا قالَ آنِفاً)؟ أي أيّ شيء قال الساعة؟ وإنّما قالوه استهزاء ، أو اظهار إنا لم نشتغل أيضا بوعيه وفهمه وقيل : إنّما قالوا ذلك لأنّهم لم يفهموا معناه ، ولم يعلموا ما سمعوه وقيل : بل قالوا ذلك تحقيرا لقوله ، أي لم يقل شيئا فيه فائدة ، ويحتمل أيضا أن يكونوا سألوا رياء ونفاقا أي لم يذهب عني من قوله إلّا هذا فماذا قال أعده عليّ لأحفظه ؛ وإنما قال : (يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) ، ثم قال : (خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ) لأن في الأول ردّ الضمير إلى لفظة من ، وفي الثاني إلى معناه ، فإنه موحّد اللفظ ، مجموع المعنى (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي وسم قلوبهم بسمة الكفار ، أو خلّى بينهم وبين اختيارهم (وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) أي شهوات نفوسهم وما مالت إليه طباعهم دون ما قامت عليه الحجة ، ثم وصف سبحانه المؤمنين فقال (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا) بما سمعوا من النّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم (زادَهُمْ) الله ،