ويحشرهم إلى وقت يوم معلوم عنده وهو يوم القيامة (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ) الذين ضللتم عن طريق الحق وجزتم عن الهدى (الْمُكَذِّبُونَ) بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، ونبوة نبيّه (لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) مفسر في سورة الصافات (فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ) أي كشرب الهيم وهي الإبل التي أصابها الهيام : وهو شدة العطش فلا تزال تشرب الماء حتى تموت (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) النزل الأمر الذي ينزل عليه صاحبه ، والمعنى : هذا طعامهم وشرابهم يوم الجزاء في جهنم.
٥٧ ـ ٧٤ ـ ثم احتج سبحانه عليهم في البعث بقوله (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ) أي نحن خلقناكم ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون ذلك (فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) أي فهلا تصدقون؟ ولم لا تصدقون بالبعث؟ لأن من قدر على الإنشاء والابتداء قدر على الإعادة. ثم نبههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحة ما ذكره فقال (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) أي ما تقذفون وتصبّون في أرحام النساء من النطف فيصير ولدا (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أيءأنتم تخلقون ما تمنون بشرا (أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) فإذا لم تقدروا أنتم وأمثالكم على ذلك فاعلموا أن الله سبحانه الخالق لذلك ، وإذا ثبت أنه قادر على خلق الولد من النطفة وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته ، لأنه ليس بأبعد منه. ثم بيّن سبحانه أنه كما بدأ الخلق فإنه يميتهم فقال (نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي نحن أجرينا الموت بين العباد كما تقتضيه الحكمة ، فمنهم من يموت صبيا ومنهم من يموت شابا ، ومنهم من يموت كهلا وشيخا وهرما (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) أي لا يسبقنا أحد منكم على ما قدرناه من الموت حتى يزيد في مقدار حياته (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ) أي نأتي لخلق مثلكم بدلا منكم (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) من الصور ، أي ان أردنا أن نجعل منكم القردة والخنازير لم نسبق ولا فاتنا ذلك وتقديره : كما لم نعجز عن تغيير أحوالكم بعد خلقكم لا نعجز عن أحوالكم بعد موتكم وقيل : أراد النشأة الثانية أي ننشئكم فيما لا تعلمون من الهيئات المختلفة ، فإن المؤمن يخلق على أحسن هيئة وأجمل صورة ، والكافر على أقبح صورة (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) أي المرة الأولى من الإنشاء ، وهو إبتداء الخلق حين خلقتم من نطفة وعلقة ومضغة (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) أي فهلا تعتبرون (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ) أي ما تعملون في الأرض وتلقون فيها من البذر (أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) أيءأنتم تنبتونه وتجعلونه زرعا أم نحن المنبتون؟ فإن من قدر على انبات الزرع من الحبة الصغيرة وأن يجعلها حبوبا كثيرة قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه (لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ) أي جعلنا ذلك الزرع (حُطاماً) أي هشيما لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) أي تتعجبون مما نزل بكم في زرعكم ، عن عطاء والكلبي ومقاتل ، وقيل معناه : تندمون وتتأسفون على ما أنفقتم فيه ، عن عكرمة وقتادة والحسن وقيل معناه يتلاومون ، أي يلوم بعضكم بعضا على التفريط في طاعة الله (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ) أي تقولون : إنا لمغرمون ، والمعنى : انا قد ذهب مالنا كله ونفقتنا وضاع وقتنا ولم نحصل على شيء ثم يستدركون فيقولون (بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) أي مبخوسو الحظ ، ممنوعون من الرزق والخير. ثم قال سبحانه منبّها على دلالة أخرى (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ) أي من السحاب (أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ) نعمة منا عليكم ، ورحمة بكم. ثم قال (لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً) أي مرّا شديد المرارة (فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) أي فهلا تشكرون على هذه النعمة السنية التي لا يقدر عليها أحد غير الله. ثم نبّه سبحانه على دلالة أخرى فقال (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) أي تستخرجونها وتقدحونها بزنادكم من الشجر (أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها) التي تنقدح النار منها ، أيءأنتم أنبتموها