أوحى به هذا الروح المرتفع من بيان لندرك بعض أسراره أما الاتجاه إلى المعنى الكلى دون تحليل لخصائص الكلمات والجمل والسياق فقد لا يكفى فى إرواء غلّة الدارس ، وإطفاء عطشه حين يحاول أن يقف على سرّ هذا النمط الرفيع من البيان ، ولعل الأستاذ وجدى يذهب إلى أن الخوض فى معرفة أسرار التركيب البيانى للقرآن قد ينتهى ببعض الدراسين إلى محاكاة هذا النّمط ما دامت أسراره البيانية قد عرفت بخصائصها البلاغية ، وهذا كلام برّاق فى ظاهره ولكنّنا عند التمحيص نعرف أن إدراك السرّ البيانىّ بخصائصه الفنية لا يعنى القدرة على محاكاته ، فالناقد الأديب قد يدرك جمال القصيدة الشعرية ويعرف موضع التأثير بها ، ويشتدّ إعجابه حتى يرتّلها ترتيلا ، ولكنه يعجز عن محاكاتها ، ولو كان إدراك السرّ الجمالى فى البيان كافيا لاحتذائه والإتيان بمثله ، لوجدنا أساتذة البلاغة جميعا من كبار الأدباء ، ولكنّ الكثيرين منهم لا يتجاوزون الناحية العلمية فإذا انطلقوا إلى الإبداع كبا بهم اليراع.
ومع هذا فإن اتجاه الأستاذ فريد وجدى إلى الحكم لسيطرة الروح الإلهى وحدها على مناحى البيان ، وعدّها سرّ الإعجاز قد دفع كثيرا من القائلين من بعده إلى مناح ترتكز على ما قاله ، إذ أضافوا إلى ما دبّجوه ما يشهدونه من روعة التأثير المنفرد بجاذبيته عن كلّ تأثير بشرى ، ولا نقول بتوارد الخواطر فى المسائل العلمية إذا كانت ذات منطق يرتكز على التحليل ، إذ ربما وقع التوارد فى الخواطر الأدبية أمّا الاتجاهات العلمية فستكون فى أصلها بذرة جيدة يبذرها السابق ويتعهّدها اللاحق بالرىّ والتشذيب حتى تستوى على سوقها شجرة فينانة ، ولكل من السابق واللاحق نصيبه الموفق فى مجال البحث ، فللأول اهتداؤه للفكرة ، وللثانى بسطها وتفريعها على نحو قد تبدو به جديدة قشيبة ، على أن العقول قد تتلاقى فى إثبات بعض الحقائق ولكن على ندرة هى إلى الاستثناء
أقرب ، وليست هكذا دائما.
مصطفى صادق الرافعى
الرافعى ـ رحمهالله ـ أوّل من أخرج كتابا مستقلا فى الإعجاز القرآنى من المعاصرين ، فمنذ أن كتب السيوطى كتابه عن الإعجاز والمكان فارغ ينتظر من يملؤه على وجه شامل مستوعب يضيف الجديد مما يشبع رغبة