وبما أنّ نسبة الأدلّة إلى موضع الالتقاء بين العامّين من وجه نسبة واحدة من حيث الظهور ، فلا يمكن تقديم بعضها على بعض ، وبمقتضى ذلك يحكم بتعارضها وتساقطها للمعارضة ؛ لاستحالة أن يعبّدنا الشارع بالدليلين المتناقضين ، واستحالة صدور التناقض منه.
مناقشة ورأي
وقد أجيب عن هذه الشبهة بعدّة أجوبة ، لعلّ أهمّها :
أوّلا : إنّ هذه القاعدة ـ أعني (لا ضرر) ـ يمكن نسبتها إلى مجموع الأحكام الشرعية فتكون أخص منها ، والخاص يقدّم على العامّ ، فكأنّ الشارع قال : عليكم بالأخذ بأحكامي جميعا إلّا ما كان منها ضرريّا ، والأحكام الضررية كما هو واضح أخصّ من مطلق الأحكام ؛ فيقدم دليلها عليها بالتخصيص. (١)
وهذا الجواب سليم لو كان عندنا مثل ذلك العموم الشامل ، وانتزاعنا له من مجموع ما ورد من قبل الشارع من الأحكام لا يجعله صادرا من قبله ، وإنّما الصادر منه أحكام متفرّقة واردة على موضوعاتها ، مدلولة لأدلّتها الخاصّة ، والنسبة إنّما تلحظ عادة بين الأدلّة الصادرة عن الشارع ، لا المنتزعة من قبلنا. (٢)
والأدلّة الصادرة عنه أدلّة متفرّقة ، كلّ دليل فيها وارد على حكمه ، فللوضوء دليله ، وللصلاة دليلها ، وهكذا ... والنسبة بين حديث (لا ضرر) وبين كل واحد منها هي العموم والخصوص من وجه ـ كما سبق تقريبه ـ ومقتضاه التعارض والتساقط ، فلا يبقى لقاعدة (لا ضرر) مورد واحد.
ثانيا : وقد يقال في مقام الجواب : إنّ التعارض هنا وإن كان محكما من حيث
__________________
١ ـ منية الطالب ٣ : ٤٠٦.
٢ ـ راجع : دراسات في علم الأصول ٣ : ٥١٣.