والشرف بعد أن يبلّغ رسالاته ويكابد المحن والأذى في تبليغها وهداية الخلق ؛ لأن ذلك ظلم ، بل يستحقّ المزيد من الله تعالى ويضاعِف [ له ] الكرامة. وليس بمستنكرٍ من قدرة الله تعالى الذي ألبسه ثوب قدرته ، وأقدره على ذلك وعلى الإتيان بالمعاجز العظام في حياته الدنيويّة أن يقدره على مثلها وهو عنده حيّ يرزق ، فإن الله ربّ الدنيا والآخرة ، وقد أقدر نبيّه على تناول ثمار الجنّة وهو في الدنيا (١) ، فلا عجب أن يقدره على إصلاح أمر من أُمور الدنيا بعد موته ، فإن الموت يقرّبه إلى كرامة الله لا يبعده ، وليس هو بإعدام له ، بل هو حيّ عند الله يرزق.
وقد كان يطّلع على ما أطلعه الله عليه من المغيّبات من أُمور الدنيا والآخرة ، وجعله مجاب الدعوة ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى بحال أبداً ، وإنما ينطق بأمر الله ، ويمسك بأمر الله ، ولا يشاء إلّا ما يشاء الله ، فهو يدور في جميع حركاته وسكناته على طبق حكمة الله وإرادته ، ولذا تارة يُشجّ رأسُه ويجوع فيصبر ، وتارة يهب الأُلوف وتهابه الأُلوف ، لأنه أشجع أهل زمانه وأكرمهم ، لأن الشجاعة والكرم من المكارم ، وهو أشرفهم في كلّ مكرمة فهو أشجعهم وأكرمهم.
ولا يدلّ صبره على الجراح في الحرب وعلى الجوع على عجزه عن كشف ذلك عن نفسه ومَن يحبّ ؛ إذ لو استلزم ذلك للزم نسبة العجز إلى قدرة الله ؛ لأن الله تعالى يعلم بما ينزل على أوليائه من أعدائه. ولا يقتضي عدم كشفه ودفعه أحياناً عدم قدرته ، بل لأن ذلك على قدر حكمته ومقتضاها ، والعباد لا يفعلون إلّا ما يؤمرون به منه ، فهو دليل على كمال شرفهم. ولو كان صبرهم يقتضي عجزهم لاقتضى أنهم ليسوا مجابي الدعوة على كلّ حال ، والبرهان دلّ على أنهم مجابو الدعوة على كلّ حال ، فصبرهم على الشدائد مع أنهم مجابو الدعوة دليل على أنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.
وبالجملة أنه لمّا ثبت أن الله تعالى عليمٌ حكيمٌ قادرٌ ، ثبت أنه لا يختار لرسالته
__________________
(١) انظر بحار الأنوار ٤٣ : ٤ ـ ٦ / ٢ ـ ٦.